في جوهر الشعر
السبت 8 آب 2009
– 609 –
بعد الإضاءة (“أزرار” الأسبوع الماضي) على “الشعر للجميع”، أُسوةً بـ”التعليم للجميع” و”الثقافة للجميع” و”الموسيقى للجميع” و”الفنون للجميع”، يَجمُلُ السؤال البديهي: “… وما الشعر”؟ ما الذي يستاهل أن يسمّى “الشعر”؟ وما الذي “يَجب” في الشعر وما الذي “لا يَجب”؟ وهل يُمكن “تَحديد” الشعر كما يتحدّد أيُّ فَنٍّ آخر؟
إذا كان “يَجب” الوزن في الشعر ضرورةً ليكون “شِعراً” (تَمييزاً له عن النثر) فهل كلُّ كلام “موزون” هو في جوهر الشعر؟ وإذا كانت القافية لازمةً كي يفترق “السجع” في النثر عن التقفية في الشعر، فهل كلُّ قافيةٍ هي في جوهر الشعر؟ وهل القافية وحدها، أو الوزن وحده، عنصرٌ كافٍ لفصل النثر عن الشعر؟ وهل يرفع من النثر أن يكون فيه شيءٌ من الشعر؟ وإن كان كذلك هل هو كافٍ ليقال عنه “النثر الشعري” أو “الشعر المنثور”؟ وهل يضير الشعر أن يكون فيه شيءٌ من النثر؟
هذه الأسئلة وسواها طرحتْها الناقدة فريدا هيوز (كاتبة زاوية الشعر في مَجلة “تايمز”) وهي تودّع قرّاء زاويتها الأُسبوعية بعد سنواتٍ من متابعتها نصوصَهم الشعرية ونشرِها إياها والتعليق عليها، مؤكدة أن “القافية والوزن والإيقاع ثالوثٌ إلزاميٌّ للشعر”. ومن أهمّ ما ذكَرته أنّ “الكلمات في الشعر هي غيرُها في النثر”، بِمعنى “أن تكون منتقاةً في عناية قد لا يتطلّبها استخدامها في النثر”. وذهبَت أبعد فنوّهت بأنّ مِمّا “يَجب” في الشعر: الهيكيلية العامة والمسؤولية في كتابة القصيدة، وضرورة السعي دائماً إلى إيجاد “جديدٍ” للشعر غير المألوف في النثر أو حتى في الشعر المتداوَل، من هنا “قدرةُ القصيدة على أن ترفع قارئها إلى حالة رفيعة راقية سامية”. وبين ما “لا يَجب” في الشعر: ألاّ تكون القصيدة نُخبوية التعبير (فتبقى قصراً على قرّاء قليلين يعتبرونها لهم فيما سائر الآخرين جميعاً لا يَجدون أيّ تواصل بينهم وبين القصيدة)، وكذلك ألاّ تكون القصيدة ذات سهولة بسيطة تَجعلها كلاماً عادياً مكرراً لا يَجد المهتمون أيّ دافع لصرف دقائق على قراءتِها.
وذكرت هيوز “حالات عادية أو أحداثاً بسيطة تبدو عاديةً وبسيطة، يُحَوِّلُها الشعراء غير عادية وغير بسيطة بـ”ما” تعنيه لَهم وبـ”كيف” يعبّرون عنها في شعرهم”. وهذا مهمٌّ جداً لِجعل الشاعر في “جوهر الشعر” الذي يَختلف تَماماً عن مفهوم الشعر أكاديمياً أو علمياً أو في السائد العام. من هذه الأحداث أو الحالات (على سبيل المثال لا الحصر): رُبَّ لَحظاتٍ في سَماع الشاعر وقعَ خطواتِ حبيبته على الأرض يُحوّلُها لَحظةً شعريةً تندلع منها قصيدة (أو حالةٌ شعرية أو حالةُ عشْق) تأخذه – وتأخذ قرّاءه – بعيداً في نَسْج هالةٍ شعرية تنطلق من وقْع الخطوات على الأرض لتعلو بِها إلى وقع هالتها قي قلبه وحياته وقعاً يَجعله يُمَيِّز في وضوح بين “وهْم” الحب قبلها و”حقيقة” الحب معها، ما يَجعل القصيدة شاهدة وشهادة واستشهاداً بالحالة التي يَخلقه وقْع خطواتها في حياته أبعد كثيراً من وقعها على الأرض (وقد يجد الشاعر لَحظةَ إلهام من أيّ مصدر آخر غير الحبيبة).
هذه “الحالات” البسيطة تندلع منها حالة الشعر، وتُميّز “شاعراً” عن “نظّام”، و”القصيدة الحقيقية” عن “الكلام الموزون المقفّى”، و”الحالة الشعرية” عن “الكتابة الآلية” و”الإلْهام” من حبيبة (أو أيّ مصدر آخَر) عن “صنعة تركيبية” يفتعلها الشاعر من دون لَحظةٍ تشعلها الحبيبة بكلمة تقولها له، أو إيحاء تُشعله به، أو حضور لها في وعي الشاعر أو حتى في لاوعيه حين هو هيمانُ بِها إلى أقصى الولَه والولَع والجنون والتعلُّق بِها في انصراف تام كامل حتى الساعة الخامسة والعشرين.
جوهر الشعر لا تُحدِّده الكلمات ولا المعاييرُ النقدية ولا المقاييسُ الأكاديمية، بل تُحدِّده حالة يخلقها الشاعر في قصيدته، تنتقل منها إلى القارئ فتنقله إلى حالة خاصة من التواصل مع حالة القصيدة وحالة الشاعر معاً. وجوهر الشعر أيضاً أن “يعرف” الشاعر كيف “يوصل” حالته في القصيدة إلى قارئٍ يتفاعل معها. وهو ما لا يُمكن أن يَبلغه الشاعر إلاّ في حالة وحيدة: الصدقُ في حالته الحياتية ومعرفتُه نقلَها إلى حالة القصيدة.