إنهم يُعدِمون البيوت !
السبت 16 أيار 2009
– 597 –
مؤلِماً كان ذاك المشهد، وجارحاً حنايا القلب والذاكرة، جَمَّدني أمامه دقائق من أصعب ما تَتَسَلْحَفُ فيه الدقيقة.
كنتُ، قبل أيامٍ هذا الأُسبوع، عائداً من اجتماعٍ لبحث المشاركة في “اليوم الوطني للتراث” (الخميس الثالث من هذا الشهر: 21 الجاري)، حين وصلتُ الى حيٍّ سكنيٍّ في بيروت، فارتطمت عيناي بِمنظرٍ فاجع: جرّافةٌ وحشيةٌ هائلة تنهال ضرباً ولطْماً وصفْعاً وطعناً وجَلْداً وقنصاً وصَرعاً وركْلاً ودعْساً وبطشاً واغتيالاً وإعداماً على بيتٍ تراثيّ جميل. أخذَت تتداعى أمامي حجارتُه تحت وحشية الجرافة، وتنهارُ واحداً واحداً شبابيكُه وأبوابُه وشرفاته، وتتدحرج تحت الرُّكام ذكرياتٌ فيه ووجوهٌ وأسماء وتواريخ وأعلامٌ ومعالِم وعلامات راح يغطّيها جميعاً غبارٌ كثيفٌ، مع تلاشيه كان يتلاشى كلُّ ماضي هذا البيت، وتَمَّحي معه أصداء أصواتٍ لسكانٍ وأهلٍ كان لَهم عنواناً واعتزازَ سُكْنى.
وفيما غامت عيناي في غبشة مريرة من تلك الصدمة، أطلّت من الغبش ذكرياتي عن فيلمٍ ذي صلة، كنتُ شاهدتُهُ قبل سنوات: “أَلَيسوا يُعدمون الخيول”؟ وهو أول نجاحٍ أوسكاريّ لافت (ونحن هذا الأُسبوع وسط الدورة 62 لِمهرجان كانّ السينمائيّ ويستعدّ لإعلان جوائز الأُوسكار) للمخرج سيدني پُولاك (1969) عن رواية هوراس ماك كُوْيْ في العنوان نفسه (1935)، وهو عن رقصة ماراتونية يستغلُّها منظِّمُها طمعاً بثمن بطاقات الجمهور المتابع، وتُشارك فيها سيّدةٌ يائسةٌ من حياتِها طلبَت من مُراقصها أن يطلق عليها النار قبل أن تسقط من الإعياء، وحين وقف في قفص المحكمة يواجه سؤال القاضي عن سبب إقدامه على فِعْلَته، أجاب: “أَليسوا يُعدِمون الخيول”؟ في الإلْماح الى إطلاق النار على كل حصان لا يعود صالِحاً للسباق أو هو بات يقَصِّر في الجري ولَم يعُد يربح أيّ جولة من سباق الخيل أو لَم يعُد ينصاع لرغبات فارسه أو صاحبه.
رجعتُ من ذكرى الفيلم لأرى أمامي “إعدام” البيت يتواصل في قسوةٍ ووحشيةٍ وفظاظة وأجحافٍ مرير ببيتٍ كان يُمكن (ونحن في أسبوع “اليوم الوطني للتراث”) أن يُحافَظ عليه ليكون صرحاً اجتماعياً أو فندقاً أو متحفاً أو مَخزناً أو مركزاً ثقافياً أو أيّ ما يُمكن حفْظه لأجله، والحفاظ عليه ليبقى تراثياً رامزاً الى ريازة لبنانية نَموذجية جديرة بالحفاظ عليها.
المسبِّب الأول لهذا “الإعدام”: منطق قطاع عقارات يفرض “إعدام الأحصنة الأصيلة” بِجَعل بيوتٍ تراثية (كقطيع خيول أصيلة) تتهاوى لأنها باتت “هرِمة” و”مقَصِّرةٌ مودِرْنياً” عن اللحاق الشبابي بـ”الحداثة” مع أنها، لو بقيَت، لَحافظت على قيمتَيْها الأثرية والاستثمارية لتستقطب حركة تِجارية أو ثقافية وتوجِد فرص عمل بتحديثها ضمن وجهها التراثي الجميل، كبادرة بلدية بيروت، اشتراكاً مع بلدية باريس، في إنقاذ “عمارة بركات” على تقاطع السوديكو وترميمها لِجعلها “متحف لذاكرة مدينة بيروت”، وهو ما يُمكن العمل عليه في بيوتٍ بيروتية أخرى تراثية جميلة جداً (في البسطة والجمّيزة والمدوّر وعين المريسة،…) يُمكن إنقاذها من “الاغتيال” و”الإعدام” بترميمها وتَحسينها كي لا تسقط، بإرادة أصحابِها، إذ تعاجلُها ضربات الجرّافة المجرمة كما تسقط الخيول العربية الأصيلة إذ تعاجلُها إصبع صاحبها بطلقات مسدّسه المجرم.
وحين أقلعتُ من جديد، تقتلعني غصَّةٌ عميقةٌ على بيت تراثي يتهاوى ولا من مُغيث، مرَّت في بالي بيوتٌ في بيروت ولبنان أنقذتْها وزارة الثقافة أو مؤسسات مصرفية أو مالية أو جمعيات قادرة، فاستملكتْها جهات رسمية أو خاصة ورمّمتْها وحوّلتْها موائل تراثية جميلة، فأنقذت “الخيول الأصيلة” من “الإعدام” وأبقتْها حيّة في الذاكرة، جميلة في التذكار.
إن بيتاً ينقذه صاحبه أو تنقذه يد كريمة (وزارة أو بلدية أو جهة فاعلة) يَخرج من الثمن والسعر والقيمة المالية النقدية، ليصبح فوق منطق البيع والشراء، ويبقى راسخاً في الزمان بفرادته وقيمته التراثية التي لا الى تسعير.
وبذلك نُبقي على وجه جميل مُشرق من ذاكرة لبنان.