لغة واحدة للتواصل الحضاري؟ الموسيقى!
السبت 9 أيار 2009
– 596 –
في دراسةٍ علْمية لَخّصَتْها إيزابيل پيريتْز (العدد 92 من مَجلة “الزمن الستراتيجي” السويسرية- عدد آذار/نيسان 2000) جاء أن “للموسيقى خلايا خاصة في الدماغ، غيرُ خلايا أخرى متعلِّقة بالكلام تضعف أو تموت مع العمر، بينما تبقى خلايا الموسيقى عمراً أطولَ سليمةً متلقّية. هنا قدرة الموسيقى على ربط المجتمع بعضه الى بعض أياً تكن لغته أو لغاته المتعددة، وهنا دور الموسيقى على تَمتين وحدات المجتمع وتوسيع آفاقها. وعن نتائج الأبحاث العلمية: عند ولادة كل إنسان تولد معه خلايا الموسيقى في دماغه، وهو لاحقاً يُحييها فتنمو أو يُهملها فتبقى راكدة بدون عمَل”.
والجمهور اللبناني، في معظمه، مهيَّأٌ لهذه الثقافة الموسيقية المنوّعة، بدَت الأُسبوع الماضي واضحةً من جمهورٍ في كازينو لبنان جاء كثيفاً يشاهد هبة القوَّاس في تَجربتها الجادَّة لتأْسيس كلمة أوبرالية تُزاوجُها مع موسيقاها الكلاسيكية مطرَّزةً بالنكهة الشرقية واللبنانية، تآلُفاً مع هيبة الأوركسترا السمفونية اللبنانية التي تألَّقت في أداء رائع، وبدَت كذلك من جمهور شباب وصبايا في “ميوزيك هول” جاؤوا كثيفين يشاهدون نَجمهم الشعبي توماس فيرسين يؤدي كلماته التي زاوجها مع موسيقاه الجامعة الـ”بوب” الى “القصيدة المغنّاة”.
تنبسط الموسيقى لغةَ تواصل مشتركة بين الأجيال شيبها وشبابِها، فتجمعهم يتواصلون في كنفها ويتفاهمون في عالَمها الوسيع يَحتضنهم جميعاً ويقيهم من تفرُّقات وفروقات وفراقات، ما يشكّلهم جيلاً ذا ذوقٍ سليم نابع من رهافة الموسيقى وموحَّدٍ في مستوى راقٍ يعتمد الموسيقى وحدة “لغة مستقلّة” هي غير الأغنية “وحدة فنية مستقلّة”، فللأغنية حديثٌ آخرُ ومعاييرُ أخرى ليس بَحثها هنا.
ولا يعود مستغرَباً أن يتحدَّث عن الموسيقى الشعراءُ والفنانون من كلّ حقل، وأن تكون رفيقتَهم أياً كان حقلهم الفني. فالشاعر والرسام والنحات والمسرحي وكل مبدع، رفيقتُه الموسيقى حين ليست وسيلة التعبير الأَساسية أو المجاورة. وإذا كان هذا حال المبدعين لِعقلٍ رهيف ذواقة، فالأجدر أن يكونَه كذلك عقلُ الجمهور الذي يتلقّى الموسيقى ويتفاعل بِها ومعها وفيها.
فهل الجمهور في لبنان “يربى” و”ينشأ” و”يتآخى” مع الموسيقى؟
يعي لبنان أهمية الموسيقى عبر ثلاث أقنية:
1) إقبال التلامذة والطلاب في كثافة لافتة على الدراسة لدى الكونسرفاتوار اللبناني في فروعه جَميعاً، وحرص الأهل على تلقين أولادهم العزف أو السولفيج أو التأْليف الموسيقي ما يرهّف ذوقهم وعقلهم وذائقتهم الجمالية والإنسانية والمجتمعية.
2) تتالي الأمسيات الموسيقية لتعويد الجمهور على حضورها، وهو ما يقوم به منذ شباط 2000 رئيس الكونسرفاتوار اللبناني وليد غلمية عند تأسيسه الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية والأوركسترا الوطنية للموسيقى الشرق عربية وفِرَق متعدّدة لِموسيقى الحجرة ذات الآلات الثنائية أو الثلاثية أو أكثر.
3) إدخال التلامذة الى دنيا الموسيقى منذ السنوات المدرسية الأُولى، في أنشطة ودروس وتمارين (بعدما دخلَت الموسيقى في صُلب المناهج كنشاط لاصَفِّيّ)، توازياً مع دعم من البيت بتغذية الحس الموسيقي استماعاً أو حضور أمسيات موسيقية، فيكبر الأولاد في البيت والمدرسة معاً على حُبّ الموسيقى والنموّ عليها مع ارتقاء سنوات الصبا والشباب.
هكذا تقرِّب الموسيقى الفئات العمرية والاجتماعية والديموغرافية فتقلّص الاختلافات وتزيد المساحة المشتركة مع الآخَر لأنّها لغةٌ حضارية تثقيفية في مُتناول الجميع، تطال النخبويّ والشعبيّ معاً، وتُبعد الجمهور عن كلّ ما دون المستوى الراقي من التعاطي مع الموسيقى عنواناً مضيئاً للرقيّ الحضاريّ.