العدل الإلهي والعدالة الانسانية
السبت 28 شباط 2009
– 586 –
إذا كان الله منَحَنا على الأرض، لِحياتنا الدُّنيا، عَدْلاً إلهيّاً بدأ بـ”خَلْقنا”، و”خَلْق” الكائنات جميعاً في تناسق كامل، فَوَهَبَنا أغلى العطايا: الحياة، ومعها حَبَانا الحرية والذكاء وطاقاتٍ بشريةً لاحدود لَها بلغَت أعلى مستوى من اختراعاتٍ واكتشافات أدّت الى تطوير البشرية، وتالياً تَمجيد عظمة الله في مَخلوقاته، فهل المخلوق فعلاً يُـبادل الخالق بِما يَليق؟
وإذا كان الكلام التنظيري من خارج يبقى بارداً دون حرارة التجربة، فالكلام العينيّ من داخل يتّخذ لَحظة المعاينة المباشرة، كما لدى مشاهدة مسرحيةٍ (فريدةٍ من نوعها في الشرق الأوسط) يؤدّيها سجناء (لا مُمثّلون) في سجن رومية: “12 لبنانياً غاضباً” (اقتَبَسَتْها زينة دكّاش عن مسرحية ريجينالد روز “12 رجلاً غاضباً”- نيويورك 1954). ويبقى مُشاهد المسرحية (في إحدى قاعات سجن رومية) مُحاطاً بشعورٍ غامض ومرير: عند انتهاء العرض، يصفّق الأحرار للمقيّدين (الممثلين) فيخرج المشاهدون الى الحرية، ويعود المقيّدون السجناء الى زنزاناتهم يُمضون عقوبة الاعتقال.
بين العدل الإلهي والعدالة الإنسانية وادٍ رهيبٌ من أسئلةٍ موجعةٍ غالباً لا تلقى أجوبتها: هل هؤلاء السجناء هم حقاً ضحايا القانون، أم ضحايا العدالة الإنسانية؟ كيف يصفِّق للمسجونين مَن هُم (كمجتمع) جزءٌ من سبب سجنهم؟ أفلا يكون المجتمع هو الجلاّد وهُم ضحاياه؟ ما دور الظواهر الإنسانية (العدالة، الندم، الحكم بالموت، حقوق الإنسان، حقوق السجين، …) في إقامة قضبان السجن أو إزالتها؟ أليس النظام الاجتماعي كلّه على المحك ويحتاج إعادة نظر: التربية، الهيئات الإنسانية والاجتماعية،…؟ ما الحلول التي يعمل عليها النظام أو المجتمع المدني لمعالجة المسائل التي، عمداً أو عفواً أو قسراً، تؤدّي الى السجن، وفي مقدّمتها المشاكل الاجتماعية وأحوال المهمَّشين والمهمَلين والجانِحين والمدْمِنين قبل أن تؤدي بِهم أحوالُهم الى ارتكاب ما يرميهم وراء قضبان الزنزانة؟ هل في نظامنا التربويّ والاجتماعيّ برامجُ توعية على هذه النواحي الخبيئة؟ هل في السجون عندنا برامجُ إعادة تأهيل (خلال فترة السجن) وبرامج تَحضير السجين لإعادة انتمائه (لدى خروجه) الى حرَم المجتمع الحر، بتلقينه مِهَناً ودُرَباً يدوية (نِجَارة، ميكانيكيات، كهربائيات، خِبَازة، حِدَادة،…) يقوم بِها ويعيش منها فلا يكون عالّة على ذويه وعلى المجتمع؟ أفليست اللاعدالة الاجتماعية هي التي تَخلق مُجرمين تُحاكمهم العدالة القانونية بأحكام قضاة ينفّذون النصوص، فيما دور العدالة الاجتماعية أن تعمل على تَجنيب هؤلاء بلوغَ الوقوف في قفص الاتهام وتَلَقّي قرار المحكمة؟ وهل حقاً كلُّ مَحكوم عليه هو فعلاً مُجرم أو مذنب، أم انه ضحية إهمال المجتمع قبل أن يكون ضحية الحكْم القضائي؟
ليست هذه الأسئلة تنظيراً بقدْرما هي وقائع أثبتَت أنّ للنظام الاجتماعي (إذا صرف اهتماماً جدياً على مشاكل العائلة والمخدرات والكحول والتربية والتعليم) حُظوظاً كبيرة لتخفيض نسبة الجرائم على أنواعها (انخفاض النسبة في تونس الى 12 في الألف، وفي قطَر الى 6 في الألف، وفي اليمَن الى 2 في الألف،…)، ما يُشير الى وجود حلول ناجعة تُخفِّض الجرائم الى النسبة الدُّنيا. وفي دراسة من جامعة إدمونتون (كندا) أن “انخفاض نسبة الجرائم يعود الى تحسين المناخ الاقتصادي الاجتماعي، وتعديل القوانين، وحزْم رجال الشرطة وسرعة أو سهولة تبليغهم”. المشكلة إذاً ليست في مَن هُم داخل الزنزانة بل في مَن لا يعمل على تَجنيب هؤلاء دخول الزنزانة. وإذا حصل أن دخلوا، على المجتمع “الحر” أن يوفّر تأهيلهم استعداداً لِخروجهم من السجن مزوَّدين بِمهارة تُخوّلُهم أمرين: العمل للاعتياش، والعمل ليكونوا أفراداً فاعلين في المجتمع، صالِحين لبناء حياة جديدة أو مواصلة حياة لم يعرفوا كيف يَغْنَمون منها فخسروها (في السجن) الى حين ثم عادوا إليها (بعد السجن) بروحٍ جديدة ونوايا جديدة وسلوكيات يُساعدهم المجتمع على تفعيلهم فيها صالِحين في مُجتمع متصالِح.
وعندها ما سوى هكذا يليق بالعدالة الإنسانية أن تستاهل العدل الإلهي.