585: تعلّم “اللغة الأم” بين التحـَـجُّر والعصْرَنَة

تَعَلُّم “اللغة الأُم” بين التَّحَجُّر والعَصَرَنَة
السبت 21 شباط 2009
– 585 –
يوم “اللغة الأُم” في العالم (أمس الجمعة، ككل 20 شباط، بناء على قرار منظمة الأونسكو في باريس) يَفتَح المنبر لتَبيان اكتساب اللغات اليوم في المدارس والجامعات ووسائل عصرية أبرزها المواقع الإلكترونية، كما فعلَت (وكم نَجحَت!) سِتُّ لُغاتٍ تطالعنا اليوم مواقعُها الإلكترونية (الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الإيطالية، الصينية). وبـ”المواقع الإلكترونية” لا أعني ما فيها من برامج وأنشطة وموادَّ للقراءة، بل أقصد “تعلُّم” هذه اللغات بالطرق الأسهل والأبسط والأدنى منالاً.
في موقع واحد (“الرائد في التعليم الدولي”) وجدتُ برامج لتعلُّم اللغات الستّ أعلاه، وضعَها خبراء من 65 بلداً تتوجَّه إلكترونياً الى ثلاثة ملايين طالب. وفي هذا الموقع أنّ الإنكليزية وحدَها “يتكلّمها مليار و800 مليون في العالم، بينهم 380 مليوناً هم أبناؤها، وأنّها اللغة الرسمية في 53 بلداً وأنّ “75 في المئة من الرسائل والبطاقات البريدية في العالم هي في الإنكليزية”، و”30 في المئة من الكتب المنشورة في العالم هي في الإنكليزية، ونَحو نصف صحافة العالم تصدر في الإنكليزية”. من هنا أُنشئ موقع إلكتروني لتعلُّم الإنكليزية دخله (حتى اليوم) 12 مليون زائر من كلّ العالم يكتشفونَها لإتقانها واستخدامها.
فأين العربية من كل هذا التطوُّر الإلكتروني؟ أين تعليمُ العربية السائغ بالطرق العصرية المنتشرة في كلّ الدنيا؟ أين البرامج الإلكترونية لتعليمها وتعلُّمها؟ كيف يُمكن تطويرُها وهي “سجينةُ” غبار “مَجامع لغة عربية” يَحكُمُ فيها ويُمارس التنظير لَها “شبابٌ” أصغرُهم من مواليد القرن التاسع عشر؟ كيف يُمكن تطويرُها حين يغتالُها بيتٌ وتُحظّرها مدرسة: في البيت يُخاطب الأهلُ أولادهم بالأجنبية (الفرنسية أو الإنكليزية) حتى عند تلقينهم الدروس العربية، وفي المدرسة “تطارد” الإدارة مَن يتكلمون العربية في الملعب و”تعاقبهم”؟ كيف تطويرُها كي تبقى لغة الحياة اليومية، ومعظمُ الكتب المدرسية جامدة غَبراء تنَفِّرُ التلامذة بنُصوصِها غير المؤسْلَبَة (ولو مُختارة من أدباء)، وبطرائقها البدائية في التقديم، وإخراجها السيّئ غير المُمتع، ووسائل إيضاح ليست ذات إغراء بَهيج جذّاب كما الحال في تعليم اللغات الأجنبية نُصوصاً وطرائق ووسائل إيضاح سمعية وبصرية؟
اللغة تَواصُلٌ لأنها لغة الحياة للحياة، فما الجهود المبذولة لإيصال العربية الى أبنائها قبل أن تُواصِلَ انْحدَارها الى السقوط من رغبة أولادها الجدد في تَعَلُّمِها برغبةٍ واقتبال؟ اللغةُ الأُمُّ انتماءٌ، فهل وسائطُ اكتساب العربية تغذّي في أولادنا الانتماء؟ ولِماذا لَم يبادر أولو الأمر الى تطوير مناهج تربوية، وإنتاج كتب مدرسية وروائية، وإنشاء مواقع إلكترونية يدخُلُها أولادُنا فيتعلّمون “اللغة الأُمّ”؟ ولن يصعب عليهم ذلك لِمهارتِهم (أكثر منا أحياناً) في دُخول مواقع إلكترونية و”البحث” فيها و”الغوص” عليها واكتشافِ عوالِم جميلة بَهيجة مغرية جذّابة. لِماذا لا يكون بين هذا “الجذب الإلكتروني” تَعَلُّمُ اللغة العربية؟
فلنتوقَّفْ عن “زَجْر” صغارنا حين يستخدمون كلمات غير “فصيحة”، ولنتركْهم على عفويّتهم في الاقتباس والكلام و”تأليف” الكلمات، وسيفهمُ الطفل لوحده (إذا كان ابن زواج مُختلط) كلماتٍ بالعربية تعلَّمَها من والده، وأخرى بالأجنبية تعلَّمَها من والدته. تعدُّد اللغات غنىً وثقافة، فماذا أعدَدْنا للعربية -اللغة الأُمّ- كي تدخل منظومة اللغات الغنيّة الأُخرى؟
معادلة لازمة واجبة: أَقْلَمَةُ اللغة مع متلقّيها، لا إرغامُهم “قسرياً” على تَعَلُّم لغة يَمُجُّونَها لسوء تعليمهم إياها. نَهرُ الحياة يَجرف الجوامد. لذا: كي تبقى العربيةُ لغةَ الحياة اليومية لِملايين أولادها فلتَدخُلْ زمن المستقبل كي يتعلّموها بشكل سائغ جذّاب ويكبروا أبناءَ عصرهم بِمفرداته الجديدة. اللغة العربية مطواعةٌ غنية أعطت اللغات الأوروبية مفردات وتراكيب، فلنطوِّر تَعَلُّمَها بوسائل عصرية جديدة ومناهج متطورة ووسائط تعبير وتعليم حديثة (بينها تلك الإلكترونية) ترفدُ أن تبقى العربيةُ لغةً جذّابة، بنتَ العصر، يُقْبل أولادنا على تَعَلُّمِها برغبة إقبالِهم على اللغات الأجنبية.
هكذا تُنقِذُنا لغتُنا الأم، وتَجعلنا رواداً في عصر الثقافة والإبداع.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*