… وتبقى نجمة بيروت فوق الغيوم العوابر
السبت 14 شباط 2009
– 584 –
لا تطلع شمسٌ جديدةٌ صباح كل يوم، إلاّ ويُشرق على بيروت ولبنان فجرٌ جديدٌ يَجعله فريداً، مغايراً، أُعجوبياً، هذا الوطنَ الذي فَِهمَ الجميع (أو سيفهمون يوماً) أنه لا يقاس بالجغرافيا ولا بالديموغرافيا بل بالإشعاع والإبداع في إرثه التاريخي.
فـ”لَجنة ذاكرة العالم” الوطنية اللبنانية (التابعة لمنظمة الأونسكو في باريس) بعد أن كانت قبل عامين قدَّمت ترشيحَين (“النقوش التاريخية على صخور نهر الكلب”، و”الأبْجدية الفينيقية أمُّ أبْجديات العالم”) فازا بقبول الأونسكو ودخلا في “لائحة ذاكرة العالم”، عادت هذا العام وقدّمت ترشيحين جديدين من لبنان لدخول “ذاكرة العالَم”: مطبعة دير مار أنطونيوس الكبير في وادي قاديشا لكونها طَبَعَت (قبل نحو 400 سنة) أول كتاب في الشرق: “كتاب المزامير” سنة 1610 بالكرشونية (أي بالعربية إنما المكتوبة بالحرف السرياني)، ومطبعة عبدالله الصايغ (المعروف بـ”عبدالله الزاخر”) في دير مار يوحنا الصابغ (الخنشارة) لكونها أصدرت (قبل 275 سنة) أول كتاب بالحرف العربي في لبنان: “ميزان الزمان” سنة 1734، وضعه بالإيطالية الراهب اليسوعي الهولندي جان نورمبِرغ ونقّح ترجمته العربية الشماس عبدالله الزاخر وطَبَعَهُ على مطبعته التي ركّبها كلَّها قطعةً قطعة) مستفيداً من خبرته الطباعية في حلب على مطبعة رومانية كان استقدمها الى هناك البطريرك أثناسيوس دباس سنة 1710 لكن الزاخر اختلف مع البطريرك دباس، فشجّعه الراهب اليسوعي جان فروماج على إنشاء مطبعة في لبنان.
والى هذين السِفْرَين النفيسَين في إرث لبنان، طالَعَنا قبل أيام (من مقال الصديق هيام ملاّط في “النهار”) أقدمُ كتاب مطبوع عن بيروت: “بيريتُوس” (الاسم اللاتيني لبيروت) صدر (قبل 347 سنة) في مدينة برونشڤيغ الألمانية، وضعه الباحث الألماني يوهانس ستْروكي سنة 1662 أطروحةً جامعية لنيل شهادة الدكتوراه، بكونه حقوقياً بحث في دور بيروت المؤتمنةِ أيامها على القانون الروماني. وفي الكتاب خمسة فصول هي:
1) تاريخُ نشأة مدينة بيروت وما كتبه عن مراحلها المؤرِّخون الإغريق والرومان،
2) مستعمرةُ بيروت ومنْحُها حق التعاطي بموجب القانون الروماني اللاتيني وظهور الأبنية الجميلة فيها واهتمامُ قياصرة روما بها ومنْحها ُلقبَ “أوغستا جوليا”،
3) دورُ بيروت في محيطها حتى بعلبك وجبل لبنان وهياكل أفقا،
4) :”أكاديميا بيروت” ودورُ فينيقيا الثقافيُّ والأدبيُّ وأعلامُها (فيلون الجبيلي وزينون وسنكون يَاتُن) ونشأة مدرسة الحقوق والتعليم ودور العلماء (دوروتيه وأناطوليوس…)،
5) مدرسةُ بيروت ودورُها القانوني الذي عادلَ دور أثينا في الماضي البعيد، واندثار المدينة لوقوع الزلزال الذي قضى على مراحلها التاريخية.
ثلاثة أحداث تواكب تسلُّم بيروت شعلة العاصمة العالمية للكتاب (في 23 نيسان المقبل من العاصمة الحالية أمستردام). ثلاثة كتب نادرة تَحْسُرُ عن وجه بيروت الحضارية، بيروت الكتاب، بيروت دار النشر الأولى في الشرق العربي، بيروت اللؤلؤة التي صنّفتها “نيويورك تايمز” أول وُجهة سياحية في العالم، بيروت المستضيفةُ هذا العام الدورةَ السادسة للألعاب الفرنكوفونية (من نحو50 دولة)، هذه هي بيروت التي تتعالى على آنياتٍ أمنية وظرفياتٍ سياسية حاولَت أن تَجعل منها أزقَّةً وزواريبَ للأنصار والأزلام عوض أن يُبرز السياسيون (كم بينهم يعرفون؟) دورَها الحضاريَّ والتاريخيَّ في كل مَحفلٍ وتصريح وخطاب.
لكنّ الزبد يغور على شاطئها، وتبقى نَجمةُ بيروت مُشِعَّةً في سماء القلب طوال العمر حتى آخر العمر، مهما تكثَّفَت الغيوم السود. فالنجمة أعلى من الغيوم، والعهد أبقى وأقوى من كلِّ حدث عابر.