ثنائيات الإبداع
السبت 7 شباط 2009
– 583 –
لكل إبداع صوتٌ وصدى. فكيف حين له صوتان معاً؟ وإذا كان شرطه اللازم أن يكون له المبدعُ الخلاّق والمتلقّي الثقيف كي يكون إبداعاً أكثر نبضاً وإشراقاً، فكيف إذا كان الاثنان (المبدع والمتلقي الأول) في السياق الإبداعي الخلاّق؟
وتاريخ الأدب والفنون والعلوم، قديمُه والحديث، حافل بـ”ثُنائيي الإبداع” الذين عملوا معاً أو كانت حياتُهم معاً حافزاً على العمل، زوجَين كانا أو عاشقَين، جنْسَين كانا أو مِثْليَّين، صديقَين كانا أو زميلين، حتى ليُمكن القول إن حياة الثنائي قد تكون أحياناً عنصراً رئيساً من عناصر ذاك الإبداع.
بين أشهر الثنائيين: في العلوم بيار وماري كوري، في الرسم فريدا كالو ودييغو ريفيرا، في النحت أوغست رودان وكاميليا كلوديل، في الموسيقى والأدب جورج صاند وفردريك شوبان (صاند ارتبطت سيرتُها كذلك مع الشاعر ألفرد دو موسّيه)، في الفكر جان بول سارتر وسيمونّ دوبوفوار، في الأدب مونتاني ولا بُوِيْسي، في الشعر لويس آراغون وإلسا تريوليه، في الغناء إديث بياف وتيو سارابو، إيف مونتان وسيمون سينيوريه، سيلين ديون ورينيه أنجيليل، مارسيل ميركيس وبوليت ميرفال، في السينما ميشال مورغان وجيرار أوري، إليزابيت تايلور وريتشارد بورتون، ميشال سيرو وجان بواريه، ستان لوريل وأوليفر هاردي، في السياسة جون وجاكلين كيندي، الأمير تشارلز والليدي ديانا، قيصر وكليوباترا، نابوليون وجوزفين، غريس كيلي والأمير رينييه، سيغولين رويال وفرنسوا هولاند، … واشتهروا بثنائية حب أو عمل أو زواج.
هذا عدا الثنائيين في الكتب والأساطير: آدم وحواء، هيلوييز وآبيلار، آرلكان وكولومبين، ساندريون والأمير الساحر، دون كيخوته وسانشو بانسا، روميو وجولييت، آستيريكس وأوبيليكس، بول وفرجيني.
ويَحفل التاريخ العربي بالكثير من الثنائيين: عنترة وعبلة، جميل وبثينة، المتنبي وخولة، ابن زيدون وولاّدة، الياس أبو شبكة وغلواء (وأبو شبكة وليلى)، جبران ومي زيادة، وتطول اللائحة ولا تنتهي.
الى أين من هنا؟ الى أن الشهرة أحياناً تحمل الى الأضواء ثنائياً قد يكون في واقعه كذلك، أو قد تنكسر الثنائية عند خلاف أو طلاق أو انفصال، لكنها تبقى في الذاكرة الجماعية صورة لـ”ثنائي جميل” أو “ثنائي مبدع” أو “ثنائي نَموذجي”. ولعلّ الناس يرتاحون الى الثنائي، خصوصاً حين ينجح وتتألَّق صورته في الصحافة والإعلام والتداول، فيروحون يتابعون أخباره ويرتاحون الى إنجازاته ويَحزنون لانكسار الثنائية.
غير أن المهم أكثر، هو ماذا يعطي من تراشحه معاً هذا الثنائي؟ وهنا أهمية الثنائي الذي “يعيش” العمل الإبداعي معاً. وإذا ليس ضرورياً أن يكون الآخر من الحقل الإبداعي نفسه، فالضروري أن يكون مرآة هذا الإبداع، يتلقَّفه، يُباركه فيرقى.
المرآة. هذه هي الكلمة. هذا هو الأساس. فكم من شعراء أو أدباء أو فنانين كانوا على حياتِهم وحيدين (ولو متزوّجين) حتى إذا غابوا غاب معهم تراثُهم لأن الآخر العائش معهم بعيد عن نتاجهم الإبداعي. وكم من مبدع أشرق إنتاجه أكثر لأن “الآخر” مرآته الحقيقية التي (حين تصل، ولو متأخرة) تعيد الى نبضه الألق وتُحَفِّزُهُ فيكتب لَها، منها، إليها، ويتألّق.
ما قيمة وردة تأرج على سياج إن لم يَمُرّ بِها مَن يشمّ الأرج؟ ما قيمة بلبل يعندل في الوادي إن لم تكن حدّه سوسنة عاشقة تتلقّف العندلة؟ ما قيمة شاعر يَبُثّ شعره إن لم تكن نَجمته تتلقّف الشعر قبل السوى، وتَحضنه وتردّده قبل سائر الناس؟
ما أتعس المبدع الذي لا ترى إليه عينان مباركتان يتمرأى فيهما كي يصقل إبداعه، وما أعظمها نعمةً أن تَمنحه الحياة عصفورة أيلول التي تعيد نَسْجَ فصوله جميعِها فتجعله يعيش الى ربيع دائم حتى في الصيف الهندي.