ريشةُ الفرح الجديد على الحيطان العتيقة
السبت 31 كانون الثاني 2009
– 582 –
فيما تتناقصُ عن الجدران في بيروت والمناطق صوَرُ الزعماءِ والسياسيين والكتاباتُ واليافطات، تتزايدُ ظاهرةٌ حضاريةٌ راقيةٌ جميلةٌ في الرسم على الحيطان وواجهات البيوت ونواصي الشوارع.
يعني؟ تتقهقر البشاعةُ على الحيطان ويتنامى الجمال. يتناقصُ الوجه القبليّ المزرعجيّ العشائريّ، ويتزايد في أحيائنا وشوارعنا الوجهُ المدنيّ الحضاريّ. وكما في مدن العالم الحضارية يطغى اللونُ على الجدران وتزدهي واجهاتُ البيوت والشوارع بالرسوم واللوحات والألوان، تتماوج في لبنان مساحاتُ اللون على الحيطان العتيقة، ينقشع أفقُ الفرح، تتحركُ العينُ صوب موسيقى الألوان عوضَ أن ترتطمَ بالأسود والرماديّ والعتْق المعشِّش في ثنايا الجدران وشقوق الزوايا وكَسَل الحجارة.
هكذا يصبحُ الفنُّ جسرَ تواصُلٍ بين الـ”أنا” والآخر، بين الذات والسوى، ينفتح الجدار مساحةَ حوار، تَمحو الألوان كلّ أثرٍ للعُنف وتنبسط مَـدَّ تواصُلٍ مع الآخر في حوارات سائغةٍ لا الى انقطاع.
وهكذا الحيُّ الداكن يصبح واحةَ إشراق، وشعورُ الغبن والأحباط شعوراً بالأمل الآتي من لون وفجر افتراضيّ طالع من لوحة، من منظر، من مدى لونيّ يغلب القهر والبشاعة. فالألوان المشرقة على حيطان البيوت والشوارع يرسُمُها، في حي أو منطقة أو ناحية من المدينة، متطوِّعون نذروا زرع الفرح في بيادر الحزن واليأس والفقر والانكسار، تَجعل التغييرَ بالألوان واقعاً لا افتراضاً، فينحو الإنسان، نفسياً في البدء ثم عملياً، الى تغيير معيشته في جوِّ حضاريٍّ بَهيجٍ ما كان يُمكن أن يلقاه بنفسيةٍ غارقة في اليأس والإحباط وسط حيطان كالِحة مقشَّرة عابسة.
ومتى يعمل التلامذة والطلاب وحتى الأهلون على تلوين الجدران لوحاتٍ وخطوطاً وأشكالاً، تنكسر حدّة التعاطي، وترتمي العوائق هلكى، فتنفتحُ القلوب على القلوب، ويأخذُ اللون يغنّي، والشكلُ يَغوى. فالخطوطُ هواتفُ الروح الى الروح، واللون جَمَّاعُ حوار، لا كلامَ فيه ولا مواقف، وليس فيه سوى حنان العطاء وسخاء البهجة، الى متعة العين وهناءة تشكيلِه.
وما تشهده مناطقُ في لبنان من بادرة متطوعين نبلاء للرسم على الجدران وواجهات البيوت بإشراك الأهالي والتلامذة والطلاب، عاملُ تغييرٍ جذريٍّ في بنية المجتمع، إذ لا يعود الجدارُ جداراً ولا حدوداً فاصلة ولا صَدّاً ولا رفضاً ما وراءه، بل يصبح اقتبالاً باللون لكل يدٍ وعقلٍ ومبادرة، ويصبحُ الحائطُ مساحةَ تغيير نفسيّ وتَجديد معنويّ ومقدمة لانتفاضة النبض.
عندئذٍ، من جدرانٍ مَحشوَّةٍ بالصور وشعاراتٍ سياسيةٍ وحزبيةٍ وفئويةٍ وتبَعيةٍ وقبَليةٍ وتَحريضيةٍ سامّة، فاصلةٍ بين اللبنانيين، تتحوَّلُ الجدران جامعةً بين اللبنانيين عبر الفن والخط واللون، برسومٍ فنيةٍ على الجدران، دعوةً للتأمل في فجر الحياة وصباحات الأمل، فلا تعودُ العينُ ترتطم بالحيط وتشمئزّ، بل تنفتح عليه وتبتهجُ بِرسمٍ، بِمنظرٍ، بسنونوّاتٍ مرفرفةٍ، بِحقلٍ ربيعيٍّ، بقوسِ قُزَحٍ يفيض بقَوس فَرَح، بفضاءٍ يتَّسع يتَّسع حتى اللامَحدود.
والشكر لِمؤسساتٍ من مُجتمعنا المدني تدعم مالياً أو بشرياً أو لوجستياً هذا النوع من أعمال راقية تُغيِّر نفسياً وميدانياً أحياءنا وشوارعنا وحيطاننا، فتنقُلُها من منظر يشدُّ بناظره صوبَ رمادية الحياة أو سوداويتها، الى منظرٍ تنهضُ به الألوانُ، نفسياً وعملياً، الى حُبّ الحياة، والرغبة في التحسين والتطوير، والانتقال نَحو الأفضل والأَرقى والأجمل.
أهالينا ومعلِّمي مدارسنا: عليكم بالألوان، فامنحوها أولادنا في المدارس، ولْيُعَبِّروا فيها بأقلام تلوين على صفحاتهم البيضاء، وريشاتٍ نابضةٍ بالحياة تعابيرَ فنيةً نقيّة، وليُشرقْ فرحُ لبنان من ألوان ريشات أولادنا، وليعرفْ لبنانُ الآتي موجةً عامّةً من تلوينِ جدرانِ البيوت والشوارع، ولتتلألأْ على حيطانِ لبنانَ نُجومٌ مشعشِعَةٌ بالحياة، بالأمل، بالرجاء الخلاصيّ، ولتكُنْ صباحاتُ لبنانَ المقبلةُ مباركةً بريشةِ الفرح على الحيطانِ العتيقة.