نُصرة غزَّة؟ تعلَّموا من لبنان
السبت 24 كانون الثاني 2009
– 581 –
شكراً لوزير إعلامنا الصديق الدكتور طارق متري على فكرته النبيلة بإحياء نَهارٍ تلفزيوني ماراتوني (“تيليماراتون”، أو اختصاراً: “تيليتون”)، من أجل غَزّة، طوال هذا اليوم (السبت) على شاشات التلفزيون اللبنانية.
البادرة، في جوهرها، عدا فاعليّتها المتوقّعة (من المتبرعين عملياً، أو من “تنظيريين” سيُدلون بآرائكم “النيِّرة” تَحاليلَ سياسية) جاءت طليعية بين ما يُحيط بـ”نُصرة” غزّة من بادرات “تعبير” انفعالية على مساحة هذا العالم العربي.
قلت: بادرات “تعبير” وأقصدها. لأن معظم ما حدث في شوارع عواصم ومدن عربية (وبعض الغربية) لم ينقذ طفلاً في تحت ركام غزة، ولا أَوصَلَ دواءً الى جريح في غزة، ولا ساعد في ثمن رغيف لعجوز جائعة في غزة. معظم ما عاينَّاه: مظاهراتٌ وصياح وصراخ ويافطات وهتافات “بالروح بالدم…” وإحراقُ أعلام في الشوارع ودوسُها بالأرجل، وكلماتٌ أمام الجماهير لَم تصل خواتيمُها لشدّة “انبحاح” أصحابِها من التهديد والوعيد أمام كاميرات التلفزيون وميكروفونات الإذاعات، ومسيراتٌ راجلة تتخللها توابيت افتراضية ولافتات شتّامة (ضد “العدو الصهيوني الغاشم” ومَجازره) أو ذليلة (استجداء المساعدة وطلب النجدة، في كلام بارد مَجّاني)، الى أعمال عنف هنا وهناك ضحيتُها أصحابُ المحالّ أو السيارات (كم تعرف بيروت السبعينات هذا النوع من الاحتجاجات “السلمية” التي كانت تنتهي بتكسير إشارات السير الكهربائية وأعمدة الشوارع وواجهات المحال والسيارات وسائر أعمال العنف، وكلّه من أجل “قضية العرب الأُولى”، والقضية منهم جميعاً براء). وجميع تلك، أمس واليوم وكلّ يوم، وسائلُ تعبير عنفيةٌ لا تفيد القضيّة ولا تردع الصلف الإسرائيلي العاهر، وتفتقد تعابير إنسانية تضامنية تُجدي الشعب المقهور الواقع تَحت النار والحصار، وتلفت العالَم الى وحشية عدوٍّ يُمارس الهولوكوست انتقاماً عصرياً شرساً من أهل فلسطين.
غير أن في لبنان اليوم موجةَ تعبير إنساني مُجديةً تَجلّت في حملات تبرُّعٍ انبرت لها جهات فاعلة، وفي أمسيات موسيقية دعا إليها شبابٌ من لبنان شاؤوا ريعها لأهل غزة، وفي مُخيّمات عمل لإرسال المعونات العينية الى أهل غزة، ومن الناحية الروحية قداديس وصلوات “الى رب العالمين” لاستلهام الرحمة، وسواها من أعمال وبادرات ذات نوايا وفعالية وجدوى.
الشاهد من كل هذا: التعبير عن الرأي (وهو حقٌّ مقدس، لا الى جدال) أن يكون بعيداً عن الغوغائية والعنف فينتهي سلبياً في المكان ومَجانياً في الزمان، ويبقى العدو الإسرائيلي ينظر الى هذه الاحتجاجات “الثورية” في العالم العربي، وهو مطمئنٌّ الى أنّ كلّ ما ليس “مقاومة” مباشرة في عيون جنوده، لن يعدو كونه غوغاء ومظاهرات ويافطات وصياحات “بالروح بالدم”.
للموقف السياسيّ دورُه، وللموقف الإنسانيّ دورُه، وللتعبير عن الرأْي دورُه. تتعدّد الأدوار والترجمات الميدانية، ويبقى الأهم لا “ماذا” نعبر به بل “كيف” نعبّر عن ماذا. وهنا المعيار، وهنا السمة التي تميّز شعباً عن شعب، وجدوى عن غوغاء.
من هنا أهمية “تيليتون” لبنان اليوم (السبت) لـ”التضامن مع غزة” في بادرة مُجدية تشارك فيها (وما أنبلَها وفيرةً بِهذا العدد الشهم) هيئاتُ المجتمع المدني اللبناني بِحسب إمكاناتِها ومصادرها، تنسيقاً مع شبيهاتِها ورصيفاتِها في فلسطين، لإرسال المعونات والمساعدات، عينيِّها والمادّيّ، بين من قدّم أعضاؤُها راتب يوم عمل ليذهب المجموع الى أهالي غزة، وبينها اتفاقات مع مستشفيات في لبنان تستقبل جرحى من أهالي غزة، وبينها تأمين “وحدات دم لِمحتاجيها” وتأمين طواقمَ طبية، واتصالات خارجية (كـ”كاريتاس الشرق الأوسط” في 16 دولة) لتوسيع دائرة المتبرعين.
هكذا لبنان، هذا “الشقيق” الذي ذات فترة كان “يوسفَ” إخوانه وكادوا يتركونه في البئر، نشبَ أرزةً ناصعةً مضيئة على الشرق، نبيلَ المقصد، مثمر الجدوى، ليكون هو هو القضية الحقيقية المفيدة، إنسانياً وميدانياً، في “قضية العرب الأُولى”.