عبد القادر قباني و”ثمرات الفنون”
السبت 29 تشرين الثاني 2008
– 573 –
في تاريخ بيروت، بيروتنا الغالية، بيروتنا الحبيبة، نَجمتنا المشعّة في ليل الزمان من أول الزمان، رجالات صنعوا تاريخها وحفروا تاريخ لبنان في ذاكرة التاريخ، بينهم البيروتي العريق الشيخ عبدالقادر قباني (1848-1935). وفي بَحث أكاديمي رصين وضعته إيمان مُحيي الدين المناصفي (في إشراف الباحث الكبير الدكتور هشام نشابة) ظهرت ملامح كثيرةٌ من القباني الذي يستحق الإضاءة عليه في اعتزاز، لقامته اللبنانية الصافية في زمن عثماني ضاعت خلاله مقاييس وانبطحَت فيه هامات وتنكَّست رايات وأقلام.
وعدا الريادة التي حققها عبدالقادر قباني في “ثمرات الفنون” (1875-1908) لكونها أول جريدة إسلامية في بيروت والثانية في السلطنة العثمانية (بعد “الجوائب” في الآستانة لأحمد فارس الشدياق اللبناني أيضاً وأيضاً)، برز عبد القادر قباني رائداً في العمل الاجتماعي فكان بين مؤسسي “جمعية الفنون” الإسلامية (1873 ومنها انبثقت جريدته “ثمرات الفنون”)، وتشكّلت في بيته البيروتي سنة1878 “جمعية المقاصد” الخيرية الإسلامية وانتخبه الحاضرون أول رئيس لها سنة كاملة أنشأ خلالها مدرستين للبنات وقام بمشاريع كثيرة واصلها بعده الرؤساء اللاحقون. كما كان القباني رائداً في العمل الإداري: عضو مجلس إدارة لواء بيروت (1880)، عضو محكمة الابتداء ومحكمة الجزاء (1881)، قائمقام صور (1882)، عضو محكمة الاستئناف في ولاية بيروت (1888) عشر سنوات متواصلة لغاية تعيينه سنة 1898 (بناء على مطالبات أهالي بيروت وملجأ ولاية بيروت) رئيساً على بلدية بيروت فقام بإصلاحات مهمة (شق طرقات جديدة، وفاء ديون البلدية زيادة الواردات،…) وعرفت بلدية بيروت في عهده ازدهاراً كبيراً وأنشطة عدّة منها استقبال أمبراطور ألْمانيا غِيُّوم الثاني وزوجته في حرش بيروت.
بعد رئاسة بلدية بيروت وإيقاف”ثمرات الفنون” (1908 بسبب تعليق الدستور وخلاف القباني مع السلطات العثمانية) تجلت ريادته بانصرافه الى أعمال عمرانية، منها نيلُهُ ترخيصاً بالحفر الى جانب خط السكة الحديدية للتنقيب عن البترول فكان أول من قام، في لبنان ودول المنطقة، بِهذه الخطوة الريادية السبّاقة التي أوقفها نشوب الحرب العالمية الأُولى (1914).
غير أن الأبقى: ريادة عبدالقادر في “ثمرات الفنون”، لِما استقطب إليها من أقلام كبار عصره (الإمام محمد عبده من مصر، الشيخ ابرهيم الأحدب، الحاج حسين بيهم، الشيخ مصطفى صادق الرافعي، الشيخ مصطفى الغلاييني، أسعد داغر، عبدالباسط فتح الله، الشيخ حسين الجسر، …)، ولِما عالَجت الجريدة من مواضيع رائدة فترتئذٍ (الدعوة الى الإصلاح السياسي، الوحدة الوطنية وخدمة الدولة لنجاح الوطن، المواضيع العلمية العالَمية، الدعوة الى تَحرير المرأة وتعليم الفتاة ومنح المرأة حقوقَها الاجتماعية، توعية الأُم على التربية البيتية، الانفتاح على الغرب وعدم الانغلاق على المدنية الجديدة، الدعوة الى إنشاء المدارس وإصلاح التعليم فيها وتنظيمه وتطويره، انفتاح الجريدة على مواضيع الآداب والفنون، الاهتمام بالمواضيع الاقتصادية والعلمية والطبية والتاريخية والمدنية،…) وفي جميعها كانت افتتاحياتُ عبدالقادر قباني ومقالاته القوية حديث القراء عهدئذٍ، تنافُساً مع افتتاحيات رفاقه ومقالاتهم في صحف العصر الرصيفة: “لسان الحال” لخليل سركيس، “البشير” للآباء اليسوعيين، “لبنان” لابرهيم الأسود، “الجنة” و”الجنان” لسليم البستاني،…
مجموعةً في فردٍ كان عبدالقادر قباني، كقامات عصره من بيروتيين مباركين تَجب الإضاءة عليهم لأجيالنا الجديدة، كي تظلَّ نَجمةُ بيروت مُشِعَّةً في ذاكرة القلب وفي ذاكرة الزمان.