الكيان اللبناني “مشكوك فيه” ؟!
السبت 22 تشرين الثاني 2008
– 572 –
عشية ذكرى الاستقلال، كان مَجلسٌ لـ”مثقّفين إيديولوجيين” يُمارسون “التنظير” في الشؤون السياسية الدولية (على أساس أنّهم “أكبر” من التداول في شؤون مَحلية “ضيِّقة”، ولا يليق بِهم وبإيديولوجيّاتِهم “المستوردة” إلاّ التحدُّث في الشؤون العالَمية والدولية الكبرى). وعند الكلام على قرب عيد الاستقلال (أو اليوم الوطني اللبناني الجامع كل لبنان الى جميع اللبنانيين)، احْلَنْشَشَ أحدُهم (“احْلَنْشَشَ يَحْلَنْشِشُ احْلِنْشاشاً”: كلمة من اختراعي لا معنى لها، وتليق تَماماً بِهؤُلاء التنظيريين) واسبَطَرَّ على مقعده (في مقهى الرصيف حيث “يقيم” نَهاراً ومساءً ثَمانية أَيام في الأُسبوع) وقال: “أيُّ استقلال هو هذا، والكيان اللبناني نفسه لا يزال مشكوكاً فيه؟” (رواها لي هكذا أحد الحاضرين).
نعم. قالَها بكل عُهرٍ وصلافة ووقاحة: “الكيان اللبناني نفسه لا يزال مشكوكاً فيه”. وهذا “الشيء” (بِهيئة رجُل) يَحمل الهوية اللبنانية، ويتمتّع بِحقوقه اللبنانية الكاملة كمواطن لبناني، ويتقاضى راتبه اللبناني من عمله في مؤسسة لبنانية، ويتنشّق هواء لبنان الحر، ويتنعَّم بلبنان الطبيعة والنظام الديمقراطي وحرية القول والنشر والتعبير وبكل ما للمواطن اللبناني من نِعَمٍ وخيراتٍ يقطفها من شجرة لبنان ويشربُها من بئر لبنان، لكنه (كأمثاله من “التنظيريين الإيديولوجيين” العَقُوقين)، مربوطٌ ذنَبُه في الخارج، ويُزاول حياته اليومية على أرض لبنان وتَحت سَماء لبنان، لكنه مستزلِمٌ ومستسلمٌ وتابعٌ لِخارج لبنان.
“الكيان اللبناني مشكوك فيه” يا ابن العُقوق؟ شو يعني “الكيان اللبناني” في رأْيك؟ وكيف هو مشكوكٌ فيه؟ إذا كان الكيان لديك حدوداً جغرافية، فجميع بلدان الدنيا لَها مع جيرانِها حدود جغرافية، طبيعية أو اصطلاحية، وتعترف بها الدول على هذا الأساس. فهل جميع كيانات الدول مشكوكٌ فيها؟ وشو يعني مشكوكٌ فيها؟ يعني اعتراف الأمم المتحدة ومجلس الأمن بكيان لبنان مشكوكٌ فيه؟ وهل حدودٌ لأيِّ بلد في العالم ليست اصطلاحية باتفاقات دولية؟ ما الفاصل (غير الاصطلاحي) بين الولايات المتحدة وكندا؟ بين فرنسا وأسبانيا وألمانيا؟ (أستشهد بأُوروپا وأميركا كي لا أُعدِّد الحدود المشتركة بين الدول العربية وما أكثرها). فهل جميع هذه الكيانات مشكوكٌ فيها كالكيان اللبناني المشكوك فيه؟ وشو يعني، برأْيك العبقريّ، مشكوك فيه؟ يعني أن ينضمّ كيانُ لبنان الى كيان أوسع، قريب أو وسيط أو بعيد، حتى يصبح كياناً “كاملاً” و”غير مشكوك فيه”؟؟
يا هذا، يا ابن مقاهي الأَرصفة وفناجين القهوة وعلَب السجائر وسبحات الطقطقة وتدخين الأراكيل وثرثرة التنظير، يا أنت ويا جميع أمثالك من “المثقّفين الإيديولوجيين”: لبنان اليوم على شفير فجر جديد هو الاستقلال الكامل. دفع دماءَ أغلى شبابه وأهله كي يتحقَّق. ولا مكان فيه بعد اليوم لشكّاكين به. حتى معلّمُوك من “بيت بو سياسة”، الموغلون في “تضييف” لبنان الى دول المنطقة (وكثيرون بينهم كانوا مثلك يرَون كيان لبنان “جزءاً” من كيانات المنطقة القريبة أو الوسيطة أو البعيدة)، عند ساعة الصفر (حين أحسّوا بأنهم سيَتَعَرَّون مُشرَّدين على أَرصفة كيانات كانوا يريدون “تذويب” لبنان فيها) “تابوا” وصرَخُوا مبتهِلين: “لبنان أولاً”. وأنتَ، مع ذلك، لا تزال بغبائك “الإيديولوجي”، تعلن لبنان “كياناً مشكوكاً فيه”؟
إن كانت هذه لا تزال قناعتك، رغم فواجع الحروب وآلاف شهدائنا للحفاظ على كيان لبنان غير ذائب في السوى، فاتْرُك فوراً مقاهي الأرصفة في لبنان، واحمل حقيبة ثيابك المعشِّش فيها قرَفُ نيكوتين السجائر والأراكيل، ولا تنْسَ أن تَضُبَّ معها إيديولوجيّتك المستعارة، واركُض الى المطار، واصعد الى أول طائرة ترميك في أيّ كيان ترى أنه غير “مشكوك فيه”.
بعد اليوم، لم يَعُدْ في لبنان مطرحٌ لأمثالك. بعد اليوم لا مكان في لبنان إلاّ للمؤمنين بأن الإيديولوجيا الوحيدة التي نعترف بِها: أيُّ جذعِ زيتونةٍ مباركةٍ في لبنان، وكلُّ حبةِ ترابٍ من أرض لبنان المقدسة.