مشاهدات ثقافية في أرمينيا
السبت 30آب 2008
يِرِڤان (أرمينيا) – 561 –
خلال اللقاء مع وزيرة الثقافة الأرمنية هاسميك بوغوسيان (لافتتاح الأُسبوع الثقافي اللبناني في أرمينيا) شدّدَت لي على نقطة مشترَكة بين لبنان وأرمينيا: العقل المبدع الخلاق المشِعّ في وساعة العالَم تعويضاً عن ضآلة الجغرافيا والديمغرافيا على الأرض الأُم. هكذا انتشر الدور الثقافي اللبناني والأرمني في أصقاع الدنيا لشعبٍ أطلع أدباء وشعراء وفنانين كباراً في كل حقل.
وفي حديث الوزيرة الثقيفة عن المبدعين (الأرمن واللبنانيين) عناوينَ لوطنهم، ركّزت طويلاً على جبران عنواناً عالَمياً للبنان، وعلى تمثال جبران في ساحة بارزة من العاصمة يِرِڤان، وعلى ترجمة “النبي” الى الأرمنية وتأثُّر القراء الأرمن بفكره الخالد.
كان يَحفزني دوماً الى الشعب الأرمني في الشتات عناصر خمسة هي أنه: شعبٌ عصاميٌّ لا يستجدي، شعبٌ بارعٌ في الحِرَف والمهن، شعبٌ مُحايد لدى كل دولة عاش فيها، شعبُ فنونٍ (إبداعاً وتَلَقِّياً)، وشعبٌ حمل معه لغته أينما ذهب، واعياً أن “وطن الإنسان لغتُه”، وتالياً ينقل معه وطنه كيفما اتَّجَه عبْر نقل لغته الأُم من جيل الى جيل مع لغة البلاد التي يستوطنها. ويلفتُ أيضاً في هذا الشعب أنه حيُّ الولاء للدولة التي يعيش في كنفها ويَحمل جنسيتها، كما حيُّ الوفاء لوطنه الأول أرمينيا.
والى ما كنتُ أختزنه في معارفي عن الأرمن من حُبّ الفنون وكون الثقافة جزءاً عضوياً من حياتهم اليومية، عاينتُ ذلك في العاصمة يِرِڤان من تقديرهم عباقرتَهُم على المستوى الشعبي والمديني: فهذا مبدعهم الأكبر المؤلف الموسيقي كوميداس له على اسمه تمثال وبولفار رئيسٌ وصالة كونشرتوات والكونسرفاتوار الوطني، وهذا آرام خاتشادوريان له على اسمه صالة كونشرتوات كبرى وشارع حيوي وتمثال كبير أمام دار الأوپّـرا، وهذا واضع الحرف الأرمني مسروپ ماشْتُوتْس له قرية كاملة باسمه والشارع الرئيس في العاصمة وتمثال ضخم فوق المكتبة الوطنية الكبرى (التي تَحمل اسمه وتَحوي أهم مَخطوطات التراث الأرمني)، وهذا هوڤانس تومانيان الكاتب الأرمني العظيم له على اسمه بلدة كاملة وشارع رئيس في العاصمة ومسرح وتمثال أمام دار الأوپّـرا،… وسواهم مِمّن حدّثني عنهم وعن معالِمهم في العاصمة مرافقي الشاب الذي انتدبتْه لي وزارة الثقافة.
ولفتتْني في شوارع يِرِڤان لافتاتٌ وملصقات جدرانية جَميعها عن احتفالات موسيقية أو مسرحية أو ثقافية مُختلفة، ولم أرَ في شوارع العاصمة صوَر سياسيين ولا شعارات سياسية ولا يافطات فوق الشارع لِمدح رجل سياسة نكايةً بِخصمه.
وتأكّد لي بالمعاينة ما كنتُ أعرفه بالتواتر: هذا شعبٌ يعيش على الثقافة في مراحل عمره منذ الصبا واليفاع، ينشأ على حُب الموسيقى أو الرسم أو الأدب ويَمضي في مراحل عمره يَختلف الى أنشطة ثقافية هي جزءٌ عضويٌّ “تلقائيٌّ” من يومياته. لذا قاوم بالفعل الثقافي المتين ما أورثه إياه النظام الشيوعي السابق من تعتير معيشي وفقر وانكسار وقدرات مَحدودة على التحرك والانتعاش، حتى إذا استقلّت أرمينيا (سنة 1991) عن منظومة ما كان يسمى “الاتحاد السوفياتي” ودكتاتوريته التوتاليتارية، أخذت تنتعش تباعاً، غارفةً من جذور إرثها الثقافي جذوعاً يورقُ عليها تدريجاً صعودُها نحو التمايز كما تُخطِّط هي لهذا التمايز، فيما ترنو يومياً الى جبلها “أرارات” الجاثم أمامها من بعيد في الأراضي التركية، وحنينُها أن تستعيده الى أرضه الأُم رمزاً حياً لها.
هنا في يِرِڤان شوارع ومراكز ثقافية على أسماء مبدعين أرمن، وعندنا هناك في لبنان مراكز ثقافية تَحمل أسماء مؤسسها أو باني حجارتها أو السياسيّ حاميها وراعيها. كلّ ذلك لأن الدولة عندنا لم تَعِ بعد أن الثقافة ومبدعيها وحدها عنوان الوطن عبر الأجيال (لا تَهييصات قطعان الشعب لسياسيين صائرين الى زوال ونسيان) ووحدها تبقى: عناوين مبدعين لولاهم لما كان الوطن على خارطة الفكر العالمي.