562: جبران الأرمني

جبران الأرمني
السبت 6 أيلول 2008
يِرِڤان (أرمينيا) – 562 –
في الطريق الى اتحاد الكُتّاب الأرمن في يِرِڤان، توَقَّف بي مُرافقي عند الحديقة العامة في العاصمة (وهي على اسم عبقري الموسيقى الأرمنية الخالد غوميداس) منبِّهاً إيّاي الى مفاجأةٍ تنتظرني، انكشفَت لي عن تِمثالٍ لِجبران على مدخل الحديقة، ينتصب بين الزُّهور والأشجار بِمسعى من سفير لبنان في أرمينيا غبريال جعارة وأبناء الجالية، أزاحوا الستارة عنه في صيف 2007.
على مدخل اتحاد الكُتّاب استقبلَني رئيسه ليڤون آنانيان بنسخةٍ أرمنيةٍ لم أعرف ما فيها حتى بادرني: “هذه أحدث ترجمة أرمنية لـ”نبي” جبران”. وأردف مشيراً الى شاب واقفٍ حَدّه: “وهذا هو المترجم هوڤيك أورديكيان”.
الاحتفال (في قاعة مُحاضرات الاتحاد) احتفاءً باثنين: مرور 125 عاماً على ولادة جبران وصدور “النبي” بالأرمنية، افتتحه رئيس الاتحاد بقوله: “إنه يومٌ تاريخي في مسيرتنا أن يَحتفي الاتحاد بِجبران العبقري الذي بات مترجماً الى معظم لغات العالم. وهذا ليس فخراً للبنان وحسْب، بل لأرمينيا وكلِّ أدبٍ ظهرت فيه ترجمةٌ لكتاباته”. وأكّد رئيس الاتحاد على “معنى استرجاع رفات جبران الى بشري من نيويورك، تَماماً كما استرجعت أرمينيا من نيويورك أيضاً رفات شاعرها العظيم وليم صارويان الى يرڤان التي ستحتفلُ قريباً بِمرور 150 عاماً على وفاته”.
وبشعورٍ “كأنه لبنانِيّ”، قرأَت المذيعة في التلڤزيون الأرمني غايانيه صموئيليان فصل “العطاء” كاملاً من كتاب “النبي” بالأرمنية، حتى إذا غنَّت سوليست “كورال الفيحاء” رُلى أبو بكر “أعطني الناي” وأتْبعها قائد الكورال باركيڤ تاسلاكيان بأغنيتَين من التراث اللبناني، ساد بين الجمع الكثيف في القاعة سكوتٌ حتى الدمع الحافي. وهو ما عقَّب عليه، في كلمته البليغة، سفيرُ لبنان غبريال جعارة، صاحبُ الفضل في إحياء 125 عاماً على ولادة جبران بِهذه الاحتفالية الرسمية الكبرى شاءها سفيرنا الناشط “نَجمة الأسبوع الثقافي اللبناني الذي هو أول لقاء ثقافي لبناني في أرمينيا منذ استقلالها عام 1991”.
وكان مؤثِّراً كذلك خطابُ الكاتب سورين موراديان أن “النبي” يختصر حياة الإنسان كلَّها من الولادة حتى الموت، وخطاب الكاتبة مارغو هوتْمانيان أن “النبي” يفتح أسرار الإنسان وأنها زارت لبنان ولا تزال ماثلةً في عينيها حتى اليوم ملامحُ صنين وغابة الأرز وفي قلبها متحف جبران الذي صلّت فيه بعمقٍ إيماني بليغ.
هذا الجبران “الأرمني” يقف اليوم الى جانب عظماء أرمينيا في التراث العريق. وليس هذا غريباً على شعب أرمينيا المغمَّس بالتراث والثقافة والفنون، الذي نسبة الأميين فيه 1،5% فقط، والذي تضع دولتُه الثقيفة صوَر عباقرتها المبدعين (لا سياسييها) على أوراقها النقدية: ورقة الألف درام تحمل صورة الشاعر يغيشيه تشارِنْتْس، ورقة الخمسة آلاف درام تحمل صورة الكاتب الروائي هوڤانس تُومانيان، ورقة العشرة آلاف درام تحمل صورة الكاتب آڤيديك إيساهاقيان (تحتفل الجالية الأرمنية في لبنان بوضع تمثال له قريباً في بيروت)، وورقة العشرين ألف درام تحمل صورة الرسام التشكيلي مارديروس سارْيَان.
بلى: لا خلاصَ لوطنٍ (كي يُثبِّت جذورَه قوياً منيعاً ضدّ الاجتياحات) إلاّ الحياةُ في العالم الإبداعي منذ طفولة أبنائه.
وهكذا لبنان: لا خلاصَ له إلاّ بشفاء شعبه من القطعانيات السياسية والزبائنيات الزعاماتية، والانصراف الى ارتياد الفنون والآداب، بِها وحدَها يعود لبنان الرائد الى لبنان، ويستعيدُ دوره الرياديّ في نَهضة الشرق عبر مبدعيه اللبنانيين الرائعين.
وكلُّ ما عدا ذلك، سياسيٌّ عابرٌ، إذاً: زبَديٌّ مؤقَّتٌ الى زوال.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*