الموسيقى: لغة الوحدة والسلام
السبت 23 آب 2008
بيت زمان/پترا- الأردن -560-
حين جاءتني الدعوةُ من مؤسسة “أصواتُنا” في عَمّان إلى “مؤتمر الكورالات العربية”- 19 إلى 22 الجاري في پـترا) لم أَحدُس أن أعود منه (ليل أمس) بزادٍ ذهنيٍّ زاد على ما كان عندي من ثقافةٍ فنية وتقنيّة أدبية.
كان ذا مغزى كبير (جديد علَيّ، ولعلّه جديد على الدول العربية مُجتمعةً) أن تَجتمع خمس كورالات عربية (الأردن، لبنان، فلسطين، سوريا، العراق) وجوقةٌ سادسة سويدية (السويد داعمةُ المؤتمر) اشتراكاً مع “الاتحاد الدولي للموسيقى الكورالية” فتتلاقى معاً وتنصهر في مكانٍ واحدٍ (قرية “بيت زمان” الفندقية) ومؤتمر واحد وهدف واحد: تبادُل الأفكار والآراء والخبرات والتجارب من أجل تفعيل دور الجوقة (الكورال: غير الكورس الغنائي التردادي المألوف في تراثنا الغنائي) ورفْعِها من مُجرّد مصاحبتِها الغناءَ إلى استقلالية ذاتية ذات رسالة تامة ناجزة سامية.
وفي افتتاحية رئيسة المؤتمر شيرين أبو خضر ما يوجز الرسالة والهدف: “غاية هذا المؤتمر أن نوحّد أصواتنا في رؤية واضحة نوحِّدُ فيها نظرةً إلى الغناء الكورالي تُبْرزُ الصوتَ البشريَّ أجملَ وأصفى الآلات الموسيقية، ونسجِّل بِها خطوةً أُولى لتأسيس جالية عربية وعالَمية من أعضاء الكورالات وعشاق الغناء الكورالي، لصقل النفس والقلب والعقل”.
وبدت لي هذه الرسالة جليَّةً طوال أيام المؤتمر في إبراز أنّ الكورال (بأدائها الجماعي) تُمَتِّن بين أعضائها روحَ الانضباط والنظام والانتظام والتنظيم، واحترامَ الوقت والتوقيت، والاعتيادَ على الانصياع (الى قائد الجوقة)، وإلغاءَ الفردية والذاتية، والشعورَ مع السوى، وتنميةَ الشخصية الجماعية، والتعمُّقَ في حُب الموسيقى، وذوبانَ الـ”أنا” في الـ”سوى”، والإحساسَ بالكلمة (فلا شخصانية بعد، ولا انفرادية بل غيرية وعطاء)، والحسَّ بالإيقاع، وتنظيمَ العقل، واستخدامَ المقاييس العلمية والقياسات العقلية الماتيماتيكية في خدمة الإبداع، واحترامَ العمل الفني (تأليفاً وتوزيعاً وإنشاداً جماعياً وإفرادياً).
ووعيتُ من هذا المؤتمر كيف تتعدّد الإيقاعات في وحدة الأداء، وكيف يندمج أعضاءُ الجوقات جميعاً في صوت واحدٍ فتنتفي الجنسيات وتنكسر المسافات والحواجز والحدود وتتوحَّد الأصوات المختلفة بالتصويت الموحَّد (الفوكاليز)، كأنَّ اختلاط السوپرانو والألتو والتينور والباس هو اندماج الهويات المتباعدة والانتماءات الجغرافية والتاريخية المختلفة في عمل جماعي واحد يعوّض في لغته عن عدم معرفة المؤدين لغاتِ بعضهم البعض، فيتفاعلون (وجمهورهم أيضاً) مع التعبير الصوتي بالوجه والشعور والإحساس المغنى كورالياً، وتكون الموسيقى لغة واحدة موحَّدة وموحِّدة ووحيدة في جمع الكل إلى لغة الوحدة والسلام.
هكذا يكون التصويت (الفوكاليز) وحَّد في التنوُّع، وتكون الأصوات (المشاركون) وحّدت في المواطنية العالمية والإنسانية، فتتلاقى الإيقاعات والأصوات في أعمال شرقية وغربية تَمحو الحواجز الأرضية والحدود السياسية والمسافات. وبذلك يتطوّر العقل (موسيقياً) ليصبح هو الذي يَسمع لا الأذن، فيترهَّف وينصقل وينضج ويسمو فيعلو عن الصغائر والحساسيات الصغيرة، خصوصاً بعد الاشتراك الپوليفوني في الإيقاع الواحد واللفظ الواحد والأداء الواحد.
هكذا توحّد الموسيقى بين الشعوب بالارتفاع نحو القيم الإنسانية، والوحدة بين البشر، والسلام بين البلدان. وأمام هذه العظمة، تتقزّم السياسات الْمُتَثَعْلِبَة بالتفريق وإثارة الحروب، ويتصاغر السياسيون الحرباويون الذين يزرعون التفرقة بين الناس.