وكيف تكون قوّتُهُ في ضعفه؟
الجمعة 18 تموز 2008
– 556 –
لا أعرف (وأفضِّل أَلاّ أعرف) مَن الذي قال ذات يوم (غير سعيد) إن “قوّة لبنان في ضعفه”، وسَرَت قولاً انْهزامياً.
قوّة لبنان في ضعفه؟ معقول؟ أيُمكن أن يقال هكذا عن وطن شغل العالم وما زال يشغله حتى اليوم وحتى كلّ يوم؟
الوطن الذي جعل إسرائيل المتعجرفة “كئيبة حزينة تاعسة” وهي ترى رئيس لبنان العماد ميشال سليمان واقفاً كجذع أرزة سامقة يستقبل الأسرى العائدين إلى حضن أرضهم، مُحاطاً برئيس السلطة التشريعية ورئيس السلطة التنفيذية، و23 وزيراً (من أصل 30) ونوابٍ وأقطاب روحيين وسياسيين، ولبنان كلُّه مشدودٌ إلى شاشات التلفزيونات ناقلة الحدث التاريخي، بينما المسؤولون الإسرائيليون يعبّرون عن “حزنهم الشديد” و”خيبتهم”، ومواطنون آخرون “يبكون وينتحبون” لـ”اليوم الأكثر سواداً في إسرائيل”، ورئيس وزرائهم ووزير دفاعهم غارقان “وسط أجواء من الحزن”، ورئيس دولتهم يقول “إسرائيل تذرف الدموع”، وأحد وزرائهم يقول “هذا يوم حزين لكل البلاد”، هل هذا الوطن الرائع “قوَّتُهُ في ضعفه”؟
الوطن الذي، تَحت ضربات أبطال مقاومته المتتالية المفاجئة الانقضاضية الموجعة، كسَر “بعبع” الجيش الإسرائيلي الذي “لا يُهزَم”، وكان سنة 1967 “زرَبَ” العرب في بيوتهم وفي ستة أيام أنهى عنترياتهم الدونكيشوتية، فإذا هو في 25 أيار 2000 يُجرجر انكساره وهزيمته وعسكره وآلياته و”بعبعه” ويرحل عن أرض لبنان الذي سَجَّل نصراً لم يعرفه العرب مُجتمعين منذ 1948، فاضحاً مقولة العرب إنهم سيرمون إسرائيل في البحر ويقضقضونها بأسنانهم، هل هذا الوطن الرائع “قوَّتُهُ في ضعفه”؟
الوطن الذي، حين بلغَت هيراكيري سياسييه أن كادوا يطيحونه بسادياتهم وكيدياتهم ونكاياتهم وأنانياتهم وشخصانياتهم وحساباتهم الشخصية، هرع القادة العرب إلى الدوحة لا حباً بسياسييه بل إنقاذاً لصيغته الفريدة في العالم العربي بل في العالم كله، فجمعوا الحردانين من سياسييه وفرضوا عليهم خلاص وطنهم فعادوا وارعووا واستفاقوا وأذعنوا وخرج لبنان من عين العاصفة، هل هذا الوطن الرائع “قوَّتُهُ في ضعفه”؟
الوطن الذي جاء وقتٌ شغل فيه رؤساء الدول الكبرى في العالم، ورؤساء دورات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، لا من أجل سياسييه بل من أجل تركيبته الفريدة في الشرق، وكينونته واحةَ حوار بين الحضارات والأديان والمذاهب والطوائف، حتى بات حاجة وضرورة يَجب الحفاظ عليهما، هل هذا الوطن الرائع “قوَّتُهُ في ضعفه”؟
الوطن الذي تتجاذبه القوى العظمى في العالَمين العربي والغربي (لِمصالِحها، صحيح، ولكن لأنه هو مُميز وفريد وصالِح ليكون نقطة مِحورية) على غير ما لدى دول المنطقة والمحيط، هل هذا الوطن الرائع “قوَّتُهُ في ضعفه”؟
الوطن الذي منه انطلقت أمُّ الأبجديات الناطقة (في جبيل التي باركت اكتشاف قدموس ابن صور)، ومنه خرجَت صبية أعطت اسمها للقارة الأوروبية (أوروب بنت ملك صور)، ومنه خرجَت أولُ مطبعة في الشرق (لدى دير قزحيا في وادي قاديشا وأصدرت “كتاب المزامير” سنة 1610 في لغتين متقابلتين: السريانية والكرشونية)، هل هذا الوطن الرائع “قوَّتُهُ في ضعفه”؟
الوطن الذي على أرضه في قانا غيَّرَ يسوع ساعة الزمن وأعلن أعجوبته الأُولى فأصبح “المسيح” و”آمن به تلامذته”، وعلى أرضه في صيدا وصور وصربتا وحرمون مشى وبشّر والتقى الأهالي وتَجلّى، هل هذا الوطن الرائع “قوَّتُهُ في ضعفه”؟
هذا الوطن الضئيل الجغرافيا والديموغرافيا لكنه منارٌ قاعدَتُهُ في الأرض ضئيلة وإشعاع عقله المبدع الخلاق يبلغ أطراف البحر والبر وآخر الدنيا، أقلُّ ما يقال فيه إن قوَّته، في كونه… لبنان.