جبران والموسيقى وضوء القمر
السبت 26 تموز 2008
– 557 –
متحف جبران الجاثم بكل مهابة في دير مار سركيس، ينضح بِهالة الذي يرقد فيه منذ 77 سنة، يَخاله البعض جُثماناً هامداً، فيما هو روح هائمة تشُعُّ من دير مار سركيس إلى بْشرّي إلى لبنان إلى العالم.
الى هذه المهابة، دعتنا السبت الماضي لجنة جبران الوطنية إلى حضور أمسية موسيقية استثنائية مع الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية، في قيادة وإعداد من مؤسسها وليد غلمية.
المناسبة: سياق احتفالات هذا العام في الذكرى 125 لولادة هذا الذي وُلد في بْشرّي ذات يوم وما زال يولد كل يوم.
الباحة تَهيَّأَت في أناقة. اسمها ذو وفاء: “ساحة ماري هاسكل”. الحضور كأنهم آتون إلى احتفال طقسي. والداعي إلى الذبيحة الطقسية أنطوان الخوري طوق (رئيس لجنة جبران الوطنية) يستقبل ويرحّب. وكاهن المعبد وهيب كيروز (حافظ المتحف) يتفقّد جُموع المصلين الداخلين إلى الهيكل.
كلمة أنطوان الخوري طوق كانت كأنها ترحِّب لا فينا بل بِجبران الجالس بيننا، معنا، إلينا. من كلماته كانت كلمة أنطوان. من مناخ جبران. من أقواله عن الموسيقى والحب والجمال. من كتاب “النبي”. من “الأرواح المتمردة”. من قلب جبران.
فوقنا كان القمر بْشرّاوياً على هدوء وإنصات، حتى إذا ارتفعت عصا وليد غلمية تعلن بدء الاحتفال الطقسي الموسيقي، ساد صمت بين جموع الهيكل، وأخذَت الموسيقى (هذه الحبيبة على قلب جبران) تصدح بألْحانٍ لبنانية كم رافقت جبران في صومعته النيويوركية وفي تَجواله بين أبناء الجالية اللبنانية في نيويورك وبوسطن: “ع الروزانا”، “يا غزيّل”، “عَ اليادي”، “آه يا أسمر اللون”، و”العتابا والميجانا” أيضاً حبيبتان على قلب جبران. وأغنيات بأصوات كورالية أنيقة تزيد المهابة هيبة.
في هذا الجو الموسيقي الجبراني الكثير، تَحت أشعَّة القمر السهران فوقنا في صحو ليلة صيف، توضَّحت العلاقة أكثر بين المبدع والمتلقّي وبينهما الموسيقى. وإذا كانت للمعارف الإبداعية صفة التدوين الزمني، فالموسيقى غير تدوينية، هي الوسيط بين المبدع والمتلقي. وهذا ما جعل الأمسية كأَنها مرفوعة بنا على جناح غيمة، وما جعل وليد غلمية، بعصاه، يبدو مرةً متواطئاً مع المتلقّي لإيصال المبدع، ومرة متواطئاً مع المبدع لإيصاله إلى المتلقّي، ومرات متواطئاً مع المبدع والمتلقّي معاً لرفع الموسيقى إلى ما يُرضي المبدع في إبداعه، وما يُرضي المتلقّي في ذائقته الموسيقية.
ومن يعرف أن يذوق هذا الجو، هذا المناخ، هذا الإطار الطبيعي الساحر الْـكأنه خارج هذا العالم السفلي مشرفاً على وادي قاديشا في هَيبة قنوبين، يفهم أكثر من قبلُ لِماذا بقي هذا الجو ضالعاً في كتابات جبران (بالعربية خصوصاً) وفي خلفيّة لوحاته (الجبال والوادي بينها)، ولماذا – وهو يرسم وجه صديقه ميخائيل نعيمة ذات عصر من 1922 – قال له: “أمنيتي يا ميشا أن أزور وادي قاديشا قبل أن أموت”. لكأنه، هذا النوستالجيّ الكبير، لم يغِبْ عن بْشرّي ووادي قاديشا إلاّ بالجسد، وبقيَتْ خيالات بْشرّي والوادي وطفولتُه فيهما حيَّةً في عينيه وفكره وخياله وكلماته ولوحاته طوال عمره في ذاك البعيد النيويوركي، وظل يَحنُّ إليها جميعها حتى أوصى بشراء دير مار سركيس كي تستريح فيه رقدتُه الأخيرة، وكان له ما شاء.
تنتهي الأمسية على علْوة تلك الغيمة البشراوية في باحة المتحف. نغادر كمن يخرجون من هيكل الصلاة. تفرغ الباحة. نلتفت وراءنا مودّعين، نرى خيالَين يلوِّحان، كأنهما جبران ومعه ماري، كأنهما المصطفى ومعه الميترا تطمئننا إلى أنْ… قليلاً ويولَدان مُجدداً من رحِم بْشرّي أخرى.