يوم تتحرَّك النخبة في لبنان
السبت 12 تموز 2008
– 555 –
غالباً ما يواجهنا السؤال (بريئاً حيناً و”ملغوماً” أحياناً): أين النخبةُ في لبنان لا تتحرّك، لا تقول كلمتها، لا ترفع صوتَها؟
سؤال مُحِقٌّ وصائب، خصوصاً في هذه الفترة بالذات والسياسيون باتوا “نُجوم” التلفزيونات والمنابر والحلقات الشعبية والجلسات المقفلة والمفتوحة.
وبـ”النخبة” تَختلف المقاييس والمفاهيم: هل هُم المثقفون؟ أم المبدعون؟ أم المنتجون ثقافياً وفكرياً وإعلامياً وصحافياً؟
شو يعني “النخبة” بِهذا المعنى؟ ومن هم أركان هذه النخبة؟
وسْط هذا التسآل ظهر مقال الصديق الكاتب السياسي سجعان القزي “هل تُخفق النخبةُ كما فشِل السياسيون؟” (“النَهار”-30 حزيران 2008) وفيه: “يتحدّثون عن النُخبة فيظُنّونَها جنساً مُجتمعيّاً مُميَّزاً، ويَضعُونَها آليّاً في مواجهةِ الشعب (متفوِّقة عليه) والطاقمِ السياسيّ (أكفأ منه)، في حين أنّ النخبةَ تنتمي إلى كلّ فئات الشعبِ وطبقاته”. وفي هذا التحديد حلولٌ (لا حَلٌّ واحد) لِـ”ما” يُمكن أن تكونه هذه النخبة، و”مَن” يُمكن أن تكون. وفي مكان آخر: “النخبة متعدِّدةُ الطاقاتِ والمستويات عابرةُ كلّ المهن: نُخبٌ فقيرة وغنيّة، أكاديميّة ونقابيّة، تقليديّة وتجديديّة، دينيّة وعَلمانيّة، شعبيّة وبورجوازيّة، مدينيّة ومناطقيّة، يمينيّة ويساريّة، عسكريّة وأمنيّة”. وفي هذه المروحة البليغة التحديد أفق واسع لـ”النخبة” كي تتحرّك، تقول كلمتها، تنتفض على واقع مُزْرٍ بات لا يَحتمله حاضر وسوف يَخجل منه مستقبل، لـ”وقوع” مصير الوطن (خصوصاً في الفترة الأخيرة) بين أيدي “أُمّيي” الوطن (لا بالمفهوم التقليدي المسطّح لـ”الأُمّيّة”، بل بِمنطق جهل المصير قياساً على وعي التاريخ). وإلاّ فكيف نفسّر التأخير والتأجيل والشروط والشروط المضادة و”المنازلات” السياسية، في حين المطلوبُ اجتماعُ الأفرقاء على مصير الأجيال المقبلة لا على حسابات الانتخابات المقبلة (كما حدّد السفير فؤاد الترك الفرق بين رجال الدولة ورجال السياسة).
إذاً ليست النخبة “برجعاجية” بل هي هي القاعدة، وهي هي الأساس، وهي هي الكلمة والصوت والقرار. النخبة، من هذا المنطق، هي عقوبة السياسيين والسوط المصلت على رقاب السياسيين، في حين الحاصل اليوم أن السياسيين هم القاعدة وقطعان الشعب هي التابعة، اللاحقة، المنصاعة، المغلوبة على أمرها ورأيها وقرارها. ولا يزيد العقدة تعقيداً إلاّ هذا التصنيف الطائفي البغيض الذي بلغ ذروته مؤخراً في فترة تشكيل الحكومة، حين انكسر الخجل والخفر والتهذيب على وساعة أخطبوط طائفية مذهبية لم تَعُد مقتصرة على رجال الطوائف والمذاهب بل بات السياسيون أنفسهم رؤوس حربة الطوائف والمذاهب، في توزيع الحقائب الوزارية وفي تقاسُم المناصب والمسؤوليات والوظائف من كل فئة وحجم ومستوى. وهو ما حصل في فرنسا حتى جاءت الثورة الفرنسية فأطاحت موزاييك الهيمنة الدينية، وفَصَلَت الدولة (جاعلة إياها في كراسي الجمهورية) عن الدين (جاعلة رجاله في كراسي صلواتهم)، وانطلقت الدولة علمانية بكل جلال واحترام، وبقي الدين على جلاله واحترامه.
وسْط هذا التسآل جاء الجواب أيضاً وأيضاً من سجعان القزي في كتابه “لبنان والشرق الأوسط: بين ولادة قيصرية وموت رحيم” وفيه بكل سوط صارخ: “اعتمادُ العلمنة في لبنان يُنقذ الأديان من الطوائف والمذاهب ويُنقذ هذه من السياسيين. إننا طائفيون منذ نَحن أجنّة. وحده اللقيط يولد علمانياً. الطوائف والمذاهب وجه وثني يشبه تعدُّد الآلهة قبل معرفة الله”.
هذه الصرخة من سجعان القزي (ومن كل صارخ جريءٍ مثله في برية الحقيقة اللبنانية) خطوة أُولى من تَحَرُّك “النخبة” لقلب الطاولة على “أمّيي” الوطن. والإنقاذ: أَلاَّ تكونَ بعيدةً عنها خطواتُنا التالية.