متى عندنا الـ”ميتـزو” اللبنانية؟
السبت 17 أيار 2008
– 547 –
ظَلَّ الصديق وليد غلمية فترةً يُحدّثني عن مَحطة “ميتزو” التلفزيونية التي لا تبُثُّ طيلة النهار والليل سوى كونشرتوات موسيقى كلاسيكية لكبرى الأوركسترات الدولية، وحفلاتِ أوبرا عالَمية، واحتفالاتٍ موسيقية عالية راقية بَجميع متفرعاتِها، حتى تسنّى لي، قبل أسابيع، تركيبُ جهازٍ يلتقط مَحطاتٍ عالَمية بينها الـ”ميتزو”. ومنذئذٍ لا أَدْلُفُ إلى بيتي إلاّ وأتابع برامج “ميتزو” من جهازي الذي لا أطفئه حتى عندما أغادر، كي يبقى جوُّ البيت عابقاً بالْموسيقى العالية التي تطهِّر البيت من أدران تَلَوُّثٍ سياسيٍّ كنتُ مُختنِقاً به حين لَم أكن أتابع إلاّ شاشاتٍ مَحليةً استحالت مؤخراً متاريس سياسية لِجهابذة الـ”توك شو”.
ومنذئذٍ أُمضي في بيتي ساعاتٍ طويلةً فائقةَ الْمتعة، أُتابع معها (حتى وأنا أكتب) أروع الأعمال الموسيقية فأعيش مع أعمال كبار المؤلفين الكلاسيكيين العالَميين ينفِّذها كبار الْمايستروات العالَميين مع أشهر العازفين في أشهر الأوركسترات، أو أعمال أُوپرا عالَمية مع سوپرانو أو تينور أو فرقة مسرحية أوپرالية كاملة، ما ينقذني من قرَف الْمتابعات التلفزيونية السياسية الْمحلية (وحتى العربية) بين عضّ أصابع هنا، أو شدّ حبال هناك، أو تشاتُم متبادل هنالك بين جماعات “بيت بو سياسة” الذين أفلسوا جَميعاً بين مُخْلصين لَم يَهزموا أخصامهم ليُثبتوا أَحقِّيَّتهم، ومتواطئين لَم ينجحوا في فرض تواطؤهم على مساحة الوطن.
وكم يوجِعني أن أُقابل، عند نهاية الكونشرتو، مرور الكاميرا على جمهورٍ واسع كثيف يقف تصفيقاً طويلاً لأوركسترا أو أوپرا، في ساحة كبرى أو دار أوپرا أو مسرح كونشرتو، في مشهد حضاري متمدّنٍ لشعبٍ مثقَّف، بينما كاميرات شاشاتُنا تتسابق على تصوير دمار هنا، أو إحراق دواليب أو أبنية هناك، أو إنزال صور وتكسير سيارات هنالك.
قد يَحْلَنْشِشُ أحدُهُم (وهو يقرأ هذا المقال) ويَسْبَطِرُّ وَيَقْعَنْسِسُ وهو “يَبِيْضُ” رأيه مستعجباً مستغرباً: وهل الآن وقت الحديث عن مَحطة “ميتزو” العالَمية، وسط كل هذا النار والدخان فوق لبنان؟
“مش وقتها”؟ هنا كلُّ الشاهد من كلامي: لِماذا علينا في لبنان أن نعيش زمن التخلُّف الرجعي القبائلي العشائري القطعاني الجاهلي إلى الوراء، فيما العالَم حولنا يَمشي بشعبه إلى التطوُّر، ويتقدَّمنا بأشواطٍ وعقود وسنوات؟
لِماذا؟ لأنّ لبنان بين دول المنطقة كان السبَّاق الرائد المتقدِّم المتطوِّر، واليوم – بسبب سياسيين، قليلةٌ عليهم اللعنة، وضئيلةٌ عليهم الشتيمة-، بات في قائمة دولٍ تستعطف الشحادة من الْمسمّاة، إشفاقاً، “الدول الْمانِحة”، واستحالَ دولةً متخلِّفَةً منكوبةً تبدو للعالَم كأنّها لا تستطيع أن تَحكم، ولا تستطيع انتخاب رئيس لَها ولا تشكيل حكومة ولا تسيير شؤون البرلُمان.
الشاهد، لِمن “باض” الاعتراض أعلاه، ليس الإشادة بِمَحطة “ميتزو”، بل لعنةُ زمنٍ لبناني وغْد جَعلَ شعبنا مسمَّراً أمام شاشات مَحلّية وعربية، مشدوداً إلى ساعات “توك شو” سياسية مُفْلِسة، ونشرات أخبار مُقْرفة، وملاحق طارئة مُرْعبة، مزروباً في بيوته حَذَراً وخَوفاً وقَرَفاً، عوض أن يذهب إلى كونشرتو أو باليه أو أوپرا أو أمسية موسيقية كلاسيكية، كشعوب العالم المتحضرة. وشعبُنا (في قسمه غير القطعاني عشائرياً، وغير الْمنضوي قبائلياً، وغير الْمنقاد عميانياً، وغير الببّغاوي سياسياً) لا يقلُّ عن شعوب العالم رُقيّاً وحضارةً وثقافةً وتَمَدُّناً وتطوُّراً وعلْماً وأكاديميَا.
ما الذي ينقصنا ليكون شعبنا كلُّه كذلك؟ ينقصُنا طقمٌ سياسيٌّ يكون ابن دولة لا ابن سياسة، ابن علمانية لا ابن مذاهب وطوائف وكوتات دينية، فيَبني دولةً لا عشيرة ولا قبيلة ولا مزرعة ولا كوتا ولا حصصاً ولا زبائنيات ولا مَحسوبيّات ولا أزلاماً قطعانيين ببَّغاويين مسعورين يُفلتون في الشوارع على مُمتلكات الناس وأعراض الناس و… مستقبل أولاد الناس.
وحين نبلغ هذا الْمستوى في الدولة والشعب، لن يكون صعباً علينا أن يُشاهد العالَم من لبنان شاشة لبنانية تنافس الـ”ميتزو” ببرامجَ تكون فعلاً سوسنة الساعات بين تلفزيونات المنطقة.