لأنني، يا إيريس، يوجعني لبنان
السبت 10 أيار 2008
– 546 –
تسألينني إنْ كنتُ لَم أتعَبْ بعد، ولَم أيأَس بعد، من فضْح مثالب سياسيين خرَّبوا لبنان؟ وتسأَلينني أن أعود إلى الكتابات الوردية، كتابات الحب التي أهيم فيها بحبيبتي السوسنة الغالية؟
كيف أتعب وكيف أَيأَس، يا إيريس، وقلمي ينبض بالحياة من وطني، وبالحبّ لوطني، وبالتكرُّس الشخصي والمهني والكتابي لقضية لبنان؟ أيُّ قلم هو هذا الذي يتعب من كتابة؟ هل يتعب صوتٌ من قولة الحق؟ هل يستقيل منشارٌ من جزّ الجذوع اليابسة؟ أية قيمةٍ لِمنجلٍ يَحصد السنابل دون الأشواك؟
كيف لا أجنّد قلمي ناشباً في وجوه مَن أوصلوا وطني إلى ما هو عليه اليوم؟ كيف أغفر لسياسيين ظلّوا يدْرون ماذا يفعلون حتى حوَّلوا وطني قبائل لبنانية، ومزارع لبنانية، وعشائر لبنانية، و”غيتوات” لبنانية، وحلبات لبنانية لِجميع الطامعين؟
كيف لا أَغضب منهم وأَثور عليهم وأُثير شعبي ضدّهم، وأنا أنظر إلى ما حولنا في الدول الصديقة والرفيقة والشقيقة من تَطَوُّر وازدهار وعُمران وتَقَدُّم وتَخطيط وتصميم ورؤية مستقبلية واستشراف للسنوات المقبلة، خَمساً أو عَشْراً ورُبّما أكثر، ووطني (الذي كان لؤلؤة الشرق وجوهرة المتوسّط ومرنَى العرب وإعجاب العالَم سيّاحاً وعلماء وباحثين وخبراء في العلم والطبيعة والفكر والأكاديميا) ساسه في العقود الأخيرة سياسيون صَحْرَنُوهُ فأفرغوه أرضاً وبشراً وعقلاً لبنانياً، فبات متخلِّفاً إلى الوراء عقوداً عن جيرانه جميعاً، بنيةً تَحتيةً وبنيةً فوقيةً وتَخطيطاً عصرياً وخدماتٍ للمواطنين وفرصَ عمَلٍ للجيل الجديد، وانْهار إلى فوضى نظاميّة وتنظيميّة وانتظاميّة ونُظُمِيَّة واستنظاميّة بِخرْق الدستور والقوانين حتى تَقَزَّمَ كلُّ تَمايُزِهِ وتَغايُرِهِ إلى مُجرّد طبيعةٍ فريدة، ومُناخٍ سائغ، وجَمالٍ وفير، وجبل منعش، وبَحرٍ مريح، وجميعُ هذه هباتٌ من الله لا فضل فيها للمسؤولين في لبنان بل على العكس يُسهمون في تشويه معظمها وتنفير الناس منها، بتصرُّفاتِهم التي تُبعِدُ الناس عن لبنان، وتُبعد اللبنانيين عن لبنان، وتفصل لبنان عن اللبنانيين فيصبح لبنانُ الأرض في مكان، واللبنانيون في مكان آخر بعيدين عنه مهاجرين مُهَجِّرين مهجورين!
كيف لا أثور على الذين سهَّلوا إعجاب الآخرين بالعقل اللبناني حتى تفريغ لبنان منه بِحجة الاستعانة به وجذْبه إلى بلدان الآخرين، فيعمل العقل اللبناني “عند” الآخرين مسهماً في إعمار بلدان الآخرين وتنميتها ونَهضتها، راضياً براتبه الْمُغري، غاصاً بغُربته (القسرية أو الطَّوعية)، عوض أن يبقى هذا العقل اللبناني في حمى لبنانه ينهض بلبنان ويبني لبنان ومستقبل لبنان ومستقبله ومستقبل أولاده وأحفاده في لبنان!
يا إيريس، يا التي غابت في ليلة حزينة ذات قدَرٍ موجِع، قدَري أنني يوجعني لبنان، يُؤلِمني وطني بأوجاعه ومآسيه وفواجع شعبه المفجوع بِمن ساسوه منذ سنوات فأوصلوه إلى سنوات سحيقة من التأخُّر والتقدُّم السلحفاتي المطّاط فيما جيرانه وإخوانه وأشقاؤه وأصدقاؤه وأخصامه وحسَّادُهُ يقفزون إلى التقدُّم في رهجة ضوئية من السنوات الآتية.
سأعود يا إيريس، سأعود إلى كتاباتي الوردية، لكنّ ارتِجاف قلمي من الغضب يغلب على ارتِهاج قلمي في لَحظات حُبّ. فوطني، يا إيريس، يَحتاج قلمي وكلَّ قلمٍ نقيٍّ غير مرهونٍ لأحد ولا مرتبطٍ بأحد ولا مستزلِم لأحد، بل مؤمنٍ بأنّ الطريق الوحيد لاسترجاع الوهج اللبناني هو وحده طريق لبنان اللبناني، الْمتصالِح مع ذاته أهلاً يتمسَّكون به وطناً واحداً موحَّداً وحيداً لكل فردٍ من شعبه ولِجميع شعبه معاً، لا ساحةً لأحد بل سماءً لكل لبناني في لبنان وفي عالم الانتشار اللبناني.
ومتى ارتاح وطني من آلامه، يا إيريس، أعود من جلجلته إلى مذوده، أشهد ولادته الجديدة، وأُصلّي “المجد لله في العلى، وفي لبنان السلام”، فيبقى قلبي مطيَّباً بالحب، وقلمي مطيَّباً بلبنان. وعندها، يا إيريس، توافينني من غيابكِ القسري الذي سيبقى أقوى من أيِّ حضورٍ طوعي في رحابة الحضور.