545: حـَدَّثـُتـْني إيريس قبل أن تغيب

حَـدَّثَـتْـني إيـريـس قبل أن تغيب
السبت 3 أيار 2008
– 545 –
“أَلَم تَتعبْ بعد؟ ألَم تَيأَسْ؟ أَلَم يرفُضْ قلمُكَ الشاعرُ بعد، أن تستخدمه لتكتب في السياسيين، وتَنعتَهم بالـ”يوضاسيين” والـ”پـيتانيين” والـ”مُلْجَميّين” و”الخونة” و”الكتبة” و”الفرّيسيين” و”الكيديين” و”الشخصانيين” و”الدونكيشوتيين” والـ”توك شُو”وِيّين؟ ألَم تنكفئْ، بعدُ، عن نعت رَدْحٍ من شعبك اللبناني بالـ”أغناميين” و”القطعانيين” و”الاصطفافيين” و”الببّغاويين” و”العميانيين” إلى سائر نعوتك الدالَّة على قلبك المقهور”؟
بـذا ساءَلتْني إيريس، في رسالتها الأخيرة قبل أيام، تعليقاً على الـ”أَزرار” التي تتابعها منذ سنوات. وساءَلََت بعد: “صحيح أنكَ، في مقال سابق وربما في أكثر من مقال، قلتَ إنك لا تكتب للسياسيين الذين تَعرف أنّهم لن يقرأُوك، وإذا قرأُوا لن يهْتَمّوا، بل سيقلبون شفاههم لِما تكتب، ولن تغيّر كتاباتُكَ شيئاً في تفكيرهم وسلوكهم وارتباطاتِهم المحليّة وارتِهاناتِهم الخارجية. قلتَ هذا. وأوضحتَ إنك تكتب للشعب كي ينهض الشعب، كي يستيقظ الشعب، كي لا يبقى الشعب حبوباً في مسبحة السياسيين، أو حطباً في مواقدهم، أو أعداداً في مظاهرات يتباهون بالدعوة إليها وبتلبية أزلامهم ومَحاسيبهم بالآلاف ومئات الآلاف. صحيح أيضاً أنكَ قلتَ هذا. ولكنّكَ تكتب أحياناً، ونعرف أنكَ تبحث كي تكتب، عن لبنانيين موهوبين يتحرّكون ويُنتِجون في لبنان، أو يَنجحون في العالم نائلين جائزة هنا، أو منصباً هناك، أو مسجلين فوزاً أو اختراعاً أو اكتشافاً هنالك، فتروح تفرح بِهم، وتكتب عنهم بِحماسةٍ طوباوية جميلة، معتبراً أن هؤلاء هم وجه لبنان الحقيقي (وهنا أستعمل كلماتك) وأن الثقافة الإبداعية هي في لبنان صورتُه الأرقى والأبقى والأنقى”.
وتساءلَتْ إيريس أيضاً: “ما دمتَ تعرف وتؤمن بأنّ الثقافة والفكر والحضارة مثلَّثُ لبنان الأمس واليوم والغد، فلماذا لا تكتب دائماً عن هذا الثالوث وأعلامه وأركانه، فتزرع في شعبكَ الأمل بأنّ لبنان الحقيقي لا يتأثر بأمواج السياسة ولا بأنواء السياسيين، بل هو مستمرٌّ في رسالته إلى شعبه والى العالم: وطن الجودة لا الكثرة، وطن النوعية لا الكمية، وطن الضآلة الجغرافية والديموغرافية إنّما وطن الإبداع الإنساني الوفير؟ وكم مرة كتبتَ لنا إن كنْز لبنان الأغلى ليس في مساحته الضئيلة ولا في عدد سكانه بل هو في العقل اللبناني المبدع؟ ولا نزال نردِّد قولتك المستمرة بأن لبنان كالمنارة التي لا تأخذ من تراب الأرض إلا مساحة قليلة لكن نورها من رأسها المشعّ يبلغ أبعد الأرض وأبعد البحر”.
وتساءَلَتْ إيريس بعد: “متى تغادر لَهجة الغضب على السياسيين، والقهر على وطنك بسببهم، وتنصرف كلياً إلى ما كنتَ منصرفاً إليه: لبنان الإبداع إنتاجاً فكرياً وفنياً، مَحلياً وعالَمياً، فتعود إليكَ، أيها الشاعرُ الْمَجنون بوطنه، نبرةُ الحب التي اعتدناها لديكَ: حُبّ لبنان وكلّ مَن وما في لبنان، هذا اللبنان الذي نَحسدكَ عليه، نَحن الذين من غير أبنائه، لشدَّة ما نفرح بِمواطنٍ يشغله حُب وطنه، وتقهره الجراح في وطنه، ويعنيه الشواذ في وطنه، كما يشغلكَ لبنان ويقهركَ لبنان ويعنيكَ لبنان؟”
وختمَت إيريس في حنان كثير: “الشعراء لسانُ شعبهم. فلْيَكُنْ لسانُكَ دوماً مُطَيَّباً بالحب، وقلمُكَ مغمَّساً بالحنان، ولْيَكُنْ لنا من لسانكَ وقلمكَ قلباً لكَ نلمسه ينضح في كلماتكَ، فتبقى لنا صورةُ لبنان الجميل كما نُحبُّ دوماً أن نرى لبنان”.
ذاك بعضُ ما حدَّثَتْني به إيريس في رسالتها الإلكترونية الأخيرة، قبل أن تغيب في صمتها الفاجع.
ولأنَّ إيريس باقيةٌ ولو غابت، وناطقةٌ ولو انطفأ في قلمها الحبر والنبض، سأخاطب إيريس (ولو إلى غيابِها) وأُجيبُها عن كلّ ما سَـأَلَـتْـنِـيه، كي يكونَ غيابُها الظالِمُ الْمُظلم، فاتِحةً بيضاء لكل حضور.
فإلى الأسبوع الْمقبل، إيريس، يا زهرة الـ”جَماليا”!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*