سياسيون زائلون مع زمنهم الزائل
السبت 2 شباط 2008
– 532 –
كانت السهرة مكتظّة بالزوار، مُحتدمة بِحديث سياسي يتناتش فيه الحوار فريقان من الساهرين ينتمي كلٌّ منهم الى جهة من “بيت بو سياسة” في لبنان، وصاحب الدعوة (وهو متنوّرٌ غير اصطفافي) مُحرَج أمام زواره، يوافق مرة، يعترض أخرى، يناقش بتهذيب من دون انحياز كي لا يزعج أحداً من مدعوّيه، والمتناتشون موغلون في حماستهم الببّغاوية لا من أجل عقيدة أو نقاش إيديولوجي أو موضوع حضاري، بل من أجل شخص سياسي ينقادون له قطعانياً غريزياً كيدياً بكل عمى. وكثيراً ما اقترب الحديث بينهم من حدود الخصومة والعراك بالكلام القاسي الذي يكون أحياناً أقسى من عراك الأيدي.
يلتفت إليّ صاحب الدعوة: “ما بالك لا تشارك في الحوار؟ ألا رأي لك في ما يدور من حديث”؟ حافظتُ على هدوئي (وسط صخب الجو في السهرة) وأجبتُه: “أشارك؟ من أجل مَن وانتصاراً لِمن، وأنا لستُ مؤمناً بأحدٍ من هؤلاء السياسيين الذي يستعر حولهم الحوار. كل هذا حوار زائل عن سياسيين زائلين مع زمنهم الزائل، ولا وقت عندي أصرفه من عمري في حديث زائل عن ناس زائلين”. استهجن الحاضرون كلامي فانتفض أحدهم: “ولو يا أستاذ؟ زائلون؟ كيف، وهم اليوم حديث الساعة والناس، ويملأون أعمدة الصحف وأثير الإذاعات وشاشات التلفزيون، ومصير البلد ومصيرنا بين أيديهم”؟ وبالهدوء نفسه قلتُ لهذا “الشيء” التابع زعيمه السياسي: “زائلون، بلى. حديث الناس اليوم؟ صحيح. لكنهم حديث غضب الناس وقرف الناس ولعنة الناس. مصيرنا بين أيديهم؟ مش صحيح. ليس بينهم واحد يملك قراره من دون أن يكون مربوطاً بـ”ريموت كونترول” تديره من بعيد كي يرفض أو يوافق أو يؤيد أو يشاكس أو يقبل. ما لي حديث عن هؤلاء الزائلين. ما قيمة الواحد منهم بعد اليوم حين ينقضي زمن حضوره السياسي، وزيراً كان اليوم أم نائباً أم رئيساً أم مسؤولاً كبيراً، وهو بعدها سيصبح “الوزير السابق” أو “النائب السابق” أو “المسؤول السابق” أو “الرئيس السابق”، فيغرق في المنفى أو في السجن أو في القبر أو في النسيان؟
انتفض واحد آخر من زاوية الصالون العابق بقرف التدخين والمدخنين: “ومن يكون الذين تُحِب أن تتحدَّث عنهم يا أستاذ”؟ قالها وهو ينفخ دخان سيجارِه الطويلِ من زلعومه الثقيل، فأجبتُه لا من دون حدة ساخرة وشفقة متعالية على جهله وانقياده الأعمى حبّة بلهاء في سبحة زعيمه السياسي: “أنا، يا هذا، أصرف وقتي على الذين لن يصبح واحد منهم سابقاً في أي زمن عاش. أسمعتَ يوماً أن بيتهوفن هو “المؤلف السابق”، أو ليونار دو فنتشي “الرسام السابق”، أو جبران “الكاتب السابق”؟ هل تعرف أنت من كان وزير الأشغال أيام أمين الريحاني؟ أو رئيس الحكومة أيام مصطفى فروخ؟ أو نائب رئيس المجلس النيابي أيام ميخائيل نعيمة؟ أو نائب بيروت أيام وديع صبرا ملحّن النشيد الوطني الذي يقف لإنشاده جميع سياسيي لبنان بلا استثناء، وهو الخالد وهم الزائلون؟ وقتي، يا هذا، أفضّل أن أصرفه مع متنوّرين غير اصطفافيين في الحوار عن أحد الخالدين، أو في مناقشة كتاب قرأتُه، أو مسرحية شاهدتُها، أو كونشرتو موسيقي حضرتُه، ولا أَجدُني أبداً أصرف ساعةً من وقتي، بل من عمري، في الحديث عن هؤلاء الزائلين مع زمانهم الزائل. فمهما ينبطحون اليوم على شاشات التلفزيون وأعمدة الصحف، غداً تتبدّل الأحوال السياسية فتجرفهم معها ويضطرُّون الى تغيير مواقفهم واصطفافاتهم السياسية فتضطرّون، أنتم أتباعهم، الى تغيير مواقفكم واصطفافاتكم، ولا رأي لكم سوى أنكم أزلام سياسيين زائلين. إنني أعطي وقتي لأعلامٍ مناراتٍ يضيئون في الزمان لا الى انطفاء، ولن أعطي سانِحة من عمري لسياسيين زائلين يوم ينطفئون سيغرقون في عتمة النسيان”.