أيُّها الآبــاء: لا تفعلوا مثلي
السبت 22 كانون الأول 2007
– 527 –
لم أكن أتوقّع أن ينتظر ابني حتى اليوم – وهو بلغ الرابعة والثلاثين – حتى يقول لي ما قاله، وكي يبوح لي (وهو بات أباً لطفل في شهره الثاني والأربعين، وطفلة في شهرها الثامن عشر) بما كان يعتمر في قلبه منذ سنوات بعيدة ترقى الى طفولته لكنه – احتراماً لي – لم يجد وقتاً مناسباً في لحظة مؤاتية يقوله لي، حتى حدث ذلك خلال زيارتي إياه الأُسبوع الماضي في أورلندو (فلوريدا) حين رآني غارقاً في مُلاعَبَة طفليه، مبتهجاً بِهما، مغتبطاً بِما ألفاه لديه من اهتمامٍ بهما حتى المبالغة.
في تلك اللحظة الغامرة بالذات من حنان الجد على حفيديه، تَحيَّن ابني الفرصة فصارحني بأنني خلال طفولته في لبنان لم أكن أرعاه، بل كان ذاك الطفل الذي يتمنى أن يرعاه أبوه كوالد، لا كشاعر منصرفٍ كلياً الى أجوائه الأدبية وأمسياته الشعرية ومُحاضراته الفكرية وحضوره في أوساطه الثقافية نهارات طويلة وليالي ثقيلة وبرامج إذاعية وتلفزيونية كنتُ أصرف لها ساعاتٍ مطّاطة بعيداً عن ابني الوحيد فينام ليالي كثيرةً لا يراني فيها عائداً إليه قبل أن ينام، ويغادر الى مدرسته صباحاً ولا يراني لأنني أكون في النوم، فلم يبتهج مرة واحدة بأن أُوصلَهُ يوماً الى المدرسة (كما كان يرى آباء رفاقه) أو أن أوافيه يوماً (مثل آباء رفاقه) على باب المدرسة فأعود به الى البيت أو الى مكان أجلس فيه معه أسأله فيخبرني بفرح الابن يُحاور صديقه أباه.
ولأنه ولدٌ وحيد، نشأ وحيداً مرَّتين: أُولى لأنه نشأَ لوحده بلا شقيق ولا شقيقة في البيت، والأُخرى لأنه كان وحيداً داخل غرفته ينْزوي في كبْتِه وقهره وبُعاده عن والدٍ يهتمّ لجمهوره يصفق له على المنابر ولا يهتمّ لولده الوحيد اللهيف أن يصفق فرحاً مع أبيه في فيلم سينما أو في نزهة عائلية أو في رحلة الى وَسَاعة الطبيعة.
انتظر ابني، ليصارحني بكل هذا، حتى صار والداً لطفلين يرعاهُما في أبوّة حنون، واهتمامٍ يومي دائمٍ يعطيه الأولوية على كبرى قضاياه، وها طفلاه اليوم يكبران في فرح عينيه من بَهجة عيونهما حين يَرَيَانه يدخل البيت فيهرع إليهما حاضناً أو مصطحباً إياهما الى نزهاتٍ وحدائق عامة ومدن ألعاب وحاملاً إليهما هدايا لا تنتظر العيد أو المناسبة فيكون مَجيئه إليهما أجمل من عيد وأبهج من مناسبة.
لا أكتب هذا الاعتراف اليوم لأسرد سيرة ذاتية تعنيني لوحدي. فلا قيمة لأوتوبيوغرافيا تعني صاحبها ولا تعني السوى بقدرما تعني صاحبها، بل أكتب اعترافي في صحوة وجدان ويقظة ضمير لأطال كل أبٍ فيتنبّه الى أنّ النجاح الحقيقيّ هو نجاحنا وأولادنا معنا لا بمعزل عنهم، لأنهم سيجيء يوم يبنون فيه نجاحهم بمعزل عنا ولا يكون لنا فيه فضل فيعتبون علينا.
ابني الذي يعيش في الولايات المتحدة منذ 21 عاماً، بنى صباه وشبابه في بيئة أميركية جادّة، بعيدة عن المعلَيشية اللبنانية والشخصانية الشرقية والفوضوية العربية، وعاش في وسط مسؤول بنى فيه كياناً عنوانه الجدية، مِحوره الاستقامة، وطريقه الإتقان في العمل والعملانية والعمالة والتعامل والمعاملة.
فيا أيها الآباء الناجحون المشهورون، أو الطامعون في الشهرة والنجاح بعيداً عن أولادكم: ابني غفر لي، لكن أولادكم قد لا يغفرون لكم. وتأكدوا أنّ أعذب أوقات النجاح لحظة نجد أولادنا يذوقون نجاحاتنا معنا ويشاركوننا إياها كما نحن نذوقها، لا أن نذوقها لوحدنا ونعتب على أولادنا أنهم لا يذوقونها معنا، فلن يذوقوا معنا نجاحاً لنا جاء على حساب أبُوَّتنا فيهم وحناننا عليهم واهتمامنا بهم ورعايتنا إياهم، لأن نجاحنا عندئذٍ يكون جداراً بيننا وبينهم، فاصلاً إيانا عنهم، وحائلاً دون اهتمامنا بهم، بِحجة أنهم من تحصيل الحاصل وأن النجاح لا ينتظر. فالواقع أنهم هم لا ينتظرون، ويبتعدون عنا وهُم تحت أجنحتنا ونظنهم معنا وهم لا يكونون معنا.
أولادَكم أولادَكم أيها الآباء: لا تفعلوا مثلي، ولا تقترفوا خطيئتي المميتة.