مع البروفسور رونكاليا في قانا
السبت 29 كانون الأول 2007
– 528 –
بعد عودتي النهائية الى لبنان سنة 1994 من “المنأى المؤقت” (1988-1994) على بحيرة الليمون في فلوريدا، صحبتُ سعيد عقل الى قانا في زيارة كانت لي الأولى الى هناك. وما إن وصلت الى مدخل البلدة، وتوقفت كي أسأل عن وجهتي الى الأجاجين والمحفورات والمغارة، حتى خرجت إلينا من حسينية البلدة سيّدة رأت سعيد عقل حدي في السيارة فهرعت إليه تقبّل يده وترجوه: “يا أستاذ عقل، أنا فاطمة من قانا، وأنا وارثة عن أجدادي، وأجدادي عن أجدادهم وأجداد أجدادهم أن قانا هنا، هي هي قانا الإنجيل، قانا الأُعجوبة الأُولى. ونحن قرأنا مقالاتك عن قانا، وصوتك مسموع وكتاباتك مقروءة، فاكتب يا أستاذ عقل، أكتب بعد، ليعرف العالم كلُّه أن قانا الإنجيل هي قانانا نحن، قانا لبنان”.
وبقي صوت فاطمة في بالي، وصممتُ من يومها أن أجعل موضوع قانا الإنجيل وتثبيت هويتها اللبنانية في رأْس اهتماماتي، الى أن قرأتُ كتاب المستشرق الإيطالي الكبير البروفسور مارتينيانو رونكاليا “على خطى يسوع المسيح في فينيقيا لبنان” (الصادر عن “المؤسسة العربية للدراسات بين الشرق والغرب”) وفيه فصلٌ كامل عن قانا موثَّقٌ بالوقائع والأرقام والخرائط، كسائر كتابه الموثق العلْمي، فتعرّفتُ به وتعدَّدت بعدها جلساتي إليه، وكلي نَهَمٌ الى إثبات لبنانية قانا الإنجيل، بعد قراءات لي عنها علْمية رصينة في نصوص الدكتور يوسف الحوراني والأب يوسف يمين وأوزابيوس القيصري والقديس جيروم مؤرخ الكنيسة وسواهم.
غير أن قمة ما كنتُ أصبو إليه أن أصحب البروفسور رونكاليا الى قانا، حتى كان لي ذلك قبل أسابيع (20/10/2007)، فأمضيتُ معه نهاراً كاملاً نتنقّل على صخور قانا، وهو، رغم سنواته الأربع والثمانين (وُلِد في ريجيولو، شمالي إيطاليا سنة 1923)، يتنقّل في تؤدة ولكن في فرح وإيمان، ويشرح لي ويحكي يروي يتكلم لا يتوقف عن ذكريات وخبرة طويلة حول موضوع قانا الذي شغله منذ كان في السوربون (باريس) يهيِّئ الدكتوراه في التاريخ والآثار. وروى لي كيف، سنة 1947 (أي قبل تقسيم فلسطين) أراد أن يقيس المسافة الفعلية التي مشاها يسوع ليبلغ عرس قانا (كما ورد في إنجيل يوحنا، 2: 1-10) فانطلق سيراً على قدميه، عند الفجر من الناصرة، عابراً طرقات الدواب من وديان وسهوب، ونام ليلته على الحدود مع لبنان، وظهر اليوم التالي بلغ قانا، فتأكَّد له ما ورد في إنجيل يوحنا: “… وفي اليوم الثالث كان عرسٌ في قانا الجليل”. واستفهمتُ منه عن معنى “اليوم الثالث” فقال إن اليهود يعتبرون المغيب بداية اليوم الجديد التالي، ويسوع جاء مع أمه مريم (بنت الناصرة) من الناصرة الى قانا وبلغها بعد الظهر (أي في بحر اليوم الثاني). ولأن العرس يكون عند المساء، مع هبوط الليل (أي بعد المغيب يعني مع بداية اليوم الثالث) فيكون التوقيت تماماً كما ورد في إنجيل يوحنا عن “اليوم الثالث” (أي بداية هذا اليوم الثالث الذي ابتدأ منذ مغيب شمس اليوم الثاني) و”آمن به تلامذته” على أرض لبنان.
سألتُه عن بلدة كفركنّا التي يدّعي اليهود أنها هي قانا الأعجوبة، فابتسم ابتسامة العالِم أمام سؤالِ جاهل وقال: “يا إبني، كفركنَّا تبعد عن الناصرة خمسة كيلومترات. فهل يعقل أن يكون يسوع استغرق يوماً ونصف اليوم ليجتاز خمسة كيلومترات”؟
وروى لي البروفسور رونكاليا كيف وهو في قانا قرأ نصوص القائد فلافيو جوزف (كان مركزه العسكري في قانا سنة 66، بعدما احتلّ الرومان فلسطين، وكتب في وضوح أن الأعجوبة تمت فيها قبل 60 سنة)، وكيف عاد (رونكاليا) الى آفيونّا مايكل أستاذه عند الفرنسيسكان (في القدس، وهو اختصاصي عالمي في الإنجيل) وكتب له تقريراً عن رحلته فتطابق تقرير الطالب مع تحاليل أستاذه.
وطوال ذاك النهار الاستثنائي في قانا، حكى لي البروفسور رونكاليا حقائق دَوَامغ، وأرقاماً ثَوَابت، وإثباتاتٍ دَوَافع، نصرخ للسلطات الكنسية أن تتبنّاها (ولْتدقّقْ فيها ما تشاء) حتى يصل الصوت الى روما، فيطوّب الفاتيكان قانا الإنجيل رسمياً قانانا نحن، قانا لبنان، ويا مرحى عندها بملايين الحجاج سنوياً يؤمّون موقعنا التاريخي الفريد في العالم، حيث جرت الأُعجوبة الأُولى، يَجيئون الى لبنان ليحُجّوا فيركعوا على الأرض التي ستصبح في كل الدنيا: فاتيكان الشرق.