ومن العتمة المحلية: بيروت عاصمة عالمية
السبت 29 أيلول 2007
– 516 –
“إن لم يكُن لبنان أعلى قمة في الجغرافيا، فهو أكيداً أعلى قمة في التاريخ” قالها عضو الأكاديمية الفرنسية السياسي والمؤرخ الفرنسي غابريال هانوتو (1853-1944)، مع أنه لم يَزُر لبنان يوماً، وهذا أفضل لصورة لبنان المستقاة في باله من مصادر المؤرخين والباحثين عن عظمة لبنان الذي بلغ في الحضارة قمماً هي حتماً ليست قمم سياسييه ولا في حقبة من تاريخه القديم والوسيط والحديث، وخصوصاً ليست صورة لبنان التي يتلقَّفها العالم اليوم عن لبنان السياسي المتخبِّط شعبُه ومصيرُه بين أيدي سياسيين معظمهم يجهلون تاريخ لبنان، ولا يعرفون منه إلا منطقتهم الانتخابية واصطفافاتهم السياسية والحزبية والفئوية والتكتُّلاتية، وأغرقوا شعبه بين زاروبين: 11 آذار أو 8 آذار، وشعارات سياسية وكيدية وشخصانية متوتّرة موتورة حتى العار.
لبنان الذي يقصده غابريال هانوتو هو لبنان الحضارة الذي لا يزال أبناؤه المبدعون حتى اليوم، وكل يوم مقبل، يُذهلون العالم بحضورهم العلْمي والأدبي والفني والثقافي العام، فيمسحون عن صورة لبنان عاراً أوقعه فيه السياسيون.
هذا هو اللبنان الذي اختارت منظمة الأونسكو لؤلؤته بيروت “عاصمة الكتاب للعام 2009” بتصويت جمعيات دولية تعنى بشؤون الكتاب. وتجيء بيروت عاصمة الكتاب الدولية بعد مدريد (2001) والإسكندرية (2002) ونيودلهي (2003) وآنفير (2004) ومونريال (2005) وتورينو (2006) وبوغوتا (2007) وأمستردام (2008)، ما يعني عودة بيروت الثقافة على الخارطة العالمية للثقافة الإبداعية، وهي من زمان عاصمة الكتاب في هذا الشرق، طباعةً وأناقةً وغزارةً وتَميُّزاً لبنانياً عالياً.
واختيار بيروتنا الحبيبة بين أربع عواصم مرشحات: بانكوك (تايلندا)، كيب تاون (جنوبي أفريقيا)، كازان (روسيا الاتحادية)، لم يأتِ إرضاء لسياسيي لبنان العباقرة، ولا جائزة ترضية لتشاتُمهم على شاشات التلفزيون، بل جاء لأن بيروت اليوم (رغم كل ما فيها من وُحُول السياسيين ورغم الوضع الموقوف المقزَّز المجمّد الذي سبَّبه للبنان سياسيوه الشخصانيون) ما زالت تُنتج 3000 كتاب، وفيها 386 مطبعة، و200 دار نشر، وهي منبر حرٌّ للدفاع عن الكتاب والكاتب.
وأيُّ فرق يدعو الى الخجل والعار، أن يقف كويشيرو ماتسورا (الأمين العام لمنظمة الأونسكو) ليُعلن من باريس اختيار بيروت عاصمة عالمية للكتاب متفوّقةً على عواصم الدول الكبرى، وأن يقف بان كي مون (الأمين العام للأمم المتحدة) ليُعلن من نيويورك ضرورة أن يشهد لبنان انتقال السلطة من الرئاسة الأولى الحالية الى رئاسة أولى مقبلة،كأن هذا الحدث يحتاج (في قاموس العالم) الى هلع الدول وتدخُّل سفرائها واجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وما ذاك إلاّ لأن سياسي لبنان أوصلوا لبنان الى هذه الدرجة من الفوضى السياسية والأمنية حتى استوجب دخول وساطات رؤساء الدول من بوش الى ساركوزي الى رؤساء مرشحين بعد أن يدخلوا على خط الوساطات بين سياسيين في لبنان لا يبعد واحدهم عن الآخر إلا بضعة زواريب.
ويكفي ما أشار ماتسورا إليه عن سروره “لرؤية بيروت التي تواجه تحديات هائلة في شأن السلام والتعايش السلمي، يتم الاعتراف بها واحة حوار في المنطقة يسهم فيه الكتاب بفاعلية عالية”، لندرك أيّ وحل سياسي يُغرقنا فيه السياسيون.
بلى: هذه هي بيروت، بيروت لبنان الحضارة، بيروتنا نَحن، بيروت الواحة الحضارية التي قزَّمها السياسيون الى زواريب انتخابية ومناطق محظورة وأحياء متناطحة وأزلام ومحاسيب أغنام منقادين عميانياً خلف زعمائهم.
وسط هذه العتمة السياسية المحلية المخجلة يشرق وجهُ بيروت العالمي، بيروت الكتاب والحضارة، ليُعيد الى خارطة العالم لبنانَ الحقيقي الذي لن يذكر أمثال غابريال هانوتو ولا واحداً من سياسييه.