سيبقى أخضر… ولو أحرقوه
السبت 6 تشرين الأول 2007
-517 –
لا نريد أن نستبق التحقيق القضائي لمعرفة السبب (أو المسبِّب أو الدافع أو المحرِّض) الذي أدّى الى كارثة بيئية فاجعية جعلت لبنان الأخضر ساحات فحم أسود، ونواحي قاحلة ينعق فيها البوم، وتحوّم فوقها الغربان باحثة عن جثث نتنة.
لا نريد ليس لأننا لا نريد أن نعرف (هل حقاً سنعرف؟!) بل لأن الظاهرة في ذاتها صفعة من التحدي لن نرضاها. قد يكون الأمر مجرّد شرارات أشعلتها موجة الحر (معقول؟ وجميعها في العتمة نفسها وفي التوقيت نفسه؟) ربما يكون الأمر مقصوداً بأيدي خفافيش الليل الذين يُعمي أسيادَهم ضوءُ لبنان المشِعّ على محيطه والعالم رغم مساعي المحيط واستسلام العالم الى إطالة ليل لبنان وعتمة لبنان وجلجلة لبنان وصَلب لبنان واغتيال لبنان بخناجر الملجميّين.
في الحالتين (ونأمل أن يكشف التحقيق الخلفيات) ليس هذا موضوعنا هنا، ولسنا في مجلس عزاء أو جلسة نواح أو مقال رثاء. على العكس: موضوعنا أنّ الذي حصل، ولو كارثياً ولو فاجعاً ولو مأساوياً ولو صدمةً تاريخياً لـ”لبنان الأخضر”، جاء ليضيف عناداً الى عنادنا، وتشبثاً أكثر في تشبُّثنا، وانغرازاً أكثر من سابق انغرازنا في أرضنا، في وطننا، في شعبنا، في هذا اللبنان المعذَّب منذ عقود، المصلوب منذ سنوات، المقهور شعبه يوماً عن يوم، المهدَّد شعبه والمصدَّع مستقبل أبنائه كل يوم.
الانغراز، نعم. والتعلّق به أكثر، بإرادة التحدي أكثر، بصلابة المقاومة أكثر، وبرفض الانهيار والانصياع والاستسلام واليأس والإحباط، وبزيادة اللعنة على سياسيين في الحكم وخارج الحكم لا يزالون يتناسلون منذ أكثر من نصف قرن على كراسي الحكم والقرار والعشائر العائلية والمزارع القبلية والوراثات الإقطاعية، وتتناسل معهم الكوارث في لبنان، ويودي حكمهم بلبنان من حرب الى حرب، ومن خطر الى خطر أكبر، ومن ضعف الى ضعف أكثر، حتى بات لبنان اليوم، بسبب سياساتهم الزواريبية، شحاداً على أبواب الدول، ضعيفاً على عتبات الدول، منكوباً يستجدي مساعدات الدول، ذليلاً ينتظر هِبات الدول، وأبناؤه الأحباب يقفون صفوفاً طويلة ينتظرون تأشيرات السفر على أبواب سفارات الدول.
الانغزار، نعم. ولن يضعف إيماننا به، ولو ضعف إيماننا، حتى الكفر، بـ”بيت بو سياسة” الذي يمسكون بالقرار في لبنان، فلبنان لنا وليس لهم، ولبنان وطننا نحن، نحن المواطنين العاديين البسطاء المخْلصين، وليس مزرعة لهم ولو كانوا حاكمين، وليس إقطاعاً لقبائلهم وسيادة أولادهم وأحفادهم، ولو كانوا هم المسيطرين، فالتاريخ قد يشهد أكثر من بوابة باستيل واحدة، وقد يعرف أكثر من ماري أنطوانيت واحدة، وقد ينصُب أكثر من مقصلة لأكثر من لويس سادس عشر واحد.
ولا بد آتية هذه المقصلة على رؤوس الذين، من سياسيي لبنان، ستطالهم الإدانة، ولا بدّ منصوبة هذه التينة اليابسة للذين، من يوضاسيي لبنان، سينتظرهم حبلها الطويل، ولا بدّ منفجرة هذه الثورة الشعبية التي ستطيح جميعَ من كانوا يدينون بالولاء لشبر واحد خارج لبنان.
الانغراز، نعم. وأكثر فأكثر في ترابه المقدس، نعم، ولو امتزج ترابه المقدس برماد حرائق الأيام الأخيرة، فالذي احترق الأسبوع الماضي كان امتداد أحراج وغابات نعيد تشجيرها ويواصلها أبناؤنا من بعدنا وأحفادهم من بعدهم. المهم أنّ العقل اللبناني لم يحترق، والإبداع اللبناني لم يحترق، والإيمان اللبناني لم يحترق. والذين سبَّبُوا الحرائق (أو شاركوا فيها أو تغاضوا عنها أو فرحوا لاندلاعها) كان يهمهم تدمير هذا الثالوث: العقل اللبناني والإبداع اللبناني والإيمان اللبناني.
وهذا ما لن يحصل. ولبنان هذا الثالوث سيبقى أخضر، مهما أحرقوه.