صبحيات نساء غير “نسوانية”
السبت 15 أيلول 2007
– 514 –
حين دعتْني الصديقة اللبنانية (المتزوّجة من رجل أعمال أُردني مرموق) الى لقاء بسيّدات أردنيات صديقات لها يزاولن “صبحية” كل اثنين ويتحاورن خلالها في أُمور ثقافية، توقّعتُ أن أَجدني بين نسوة “ضجرانات” يجتمعن كي يلعبن بالورق أو يمارسن احتساء القهوة وتدخين الأركيلة ويتحدّثن في شؤون عامة لتمضية الوقت بالحكي.
لكنني فوجئتُ بوجود شُلّة سيّداتٍ في مقتبل العمر أو في مطلع العمر الثالث، مثقَّفاتٍ فعلاً، راقياتٍ حقاً، رصيناتٍ بدون “تشاوُف”، قلن لي إنهنّ يدأبن على هذا اللقاء (أُسبوعياً بدون انقطاع صيفاً ولا شتاءً) منذ 18 سنة متتالية.
وماذا في هذا اللقاء؟ يجتمعن في العاشرة، يُمضين ساعةً مع الموسيقى الكلاسيكية صامتاتٍ مصغياتٍ الى مقطوعة مقرَّرة، تقوم بعدها مكلّفة بينهنّ بوضع موجزٍ عن المقطوعة (سمفونيا، كونشرتو،…) وعن صاحبها وأحياناً عن الأوركسترا التي تعزفها وعن قائدها، ثم ينفتح المجال لعرض الانطباعات والأفكار والآراء، ما يزيد من تثَقُّف من لم تكنَّ مطَّلعاتٍ كفايةً على الأثر وصاحبه، وما يخلق فرصة تثقيفية مفيدة لمن لا يعرفن الأثر ولا صاحبه.
وأخبرتْني إحدى السيّدات أنها، وبعض الموجودات، أعضاء في تجمُّعٍ أُسبوعيٍّ آخَر (بدأ منذ عشر سنوات) لمناقشة كتابٍ صادرٍ حديثاً أو مؤخراً أو هو إحدى روائع الأدب. ويتّبعن الآلية نفسَها: تكون إحداهُنَّ مكلَّفةً بتلخيص الكتاب فتقرأ عرضها، ثم تلي فترة مناقشة واستفسارات وتبادُل آراء. وفهمتُ أنّ معظم الكتب المناقَشَة هي بالإنكليزية، وبعضها بالفرنسية، ما يُغْني قراءة السيّدات بالعربية. وفهمتُ أكثر: ولا واحدةٌ من السيّدات، في كلا التجَمُّعَين، تمارس التدخين خلال الجلسة، والتي تدخِّن منهُنّ تخرج في أُويقات الاستراحة الى الشرفة كي لا تزعج رفيقاتها.
ومن حساب بسيط يتّضح أن هؤلاء السيّدات أَصغَين حتى اليوم الى نحو 900 مقطوعة كلاسيكية واطّلعْنَ على نحو 500 كتاب. ومهما اقتطعنا من هذين الرقمين، لنترك هامش طوارئ مُعيقة خلال السنوات الماضية، يبقى لدينا رقمان عاليان جداً يعطيان فكرة راقية عن هذا التجمُّع من نساء أردنيات يَملأن وقتهُنّ مع الكتب والموسيقى الكلاسيكية، ما ينعكس فائدةً تربوية وثقافية واجتماعية وبيئية تنتقل لا الى أولادهنّ وحسب بل الى أحفادهنّ، فلا يُمكن إلاّ أن تكون تربيتُهُنّ مُميزة مغايرة وراقية وتُنشئُ جيلاً مُميَّزاً ومغايراً وراقياً حين الأُمُّ نهمة الى القراءة وسماع الموسيقى الكلاسيكية. فليس كالفنّ العالي والتثَقُّف لتهيئة أمهات هي ذي اهتماماتُهُنّ بعيداً عن هدر العمر في لعب الورق والبريدج وصبحيات القهوة والأركيلة وحكي النسوان الذي بلا طائل. وحدها الفنون الراقية تجعلنا شعباً مثقَّفاً متمدِّناً حضارياً تنتقل فيه الثقافة والمدنيّة والحضارة من جيل الى جيل.
الهيئات النسائية في لبنان، فلْتبادر الى تعميم هذه الظاهرة عوض الأركلة والثرثرة و”الأنكلة” والتدخين وحكي السياسة الاصطفافي. فثقافة الأمّ صورة تنشئتها وتربية أولادها. وعندها يجيء يومٌ لا يعود فيه “بيت بو سياسة” عندنا يجدون أكتافاً ببّغاوية شابة لكراسيهم السياسية، ولا أصواتاً تهييصية تصفيقية أغنامية لخطبهم الرنّانة الجوفاء.
وهذا هو الجيل الجديد الذي سيغيُّر صورة لبنان.