تلك الليلة في نيحا
السبت 8 أيلول 2007
– 513 –
زرتُها للمرة الأُولى (قبل ثلاث سنوات) في زيارة عجلى لم تتح لي قراءة حجارتها، لكنني لاحظت تشابُهاً بين معابدها ومعابد بعلبك. وبقي السؤال سؤالاً. هذه المرة (السبت الماضي) سمعت أجوبة (من ابنها الطبيب الجراح غازي معلوف) عن المعبدين فيها: معبد هادانِس (على اسم الكاهن الأكبر الذي كان معبده في نيحا مقصداً لمزاولة الطقوس الدينية، وعلى صورته كان بناء جميع المعابد الشبيهة في رحاب هليوبوليس)، ومعبد أتارغاتِس (إلهة الجمال). وسمعتُ أن آثار نيحا اكتملت بناءً لا نحتاً سنة 70 ق.م.، وأن نيحا كانت مقصداً لأهل المنطقة يؤمُّونها (ويسكنونها) لغناها بالقمح ولهناءة الراحة فيها (من هنا اسمها: “نيوحو” بالسريانية أي مكان الراحة)، وهي بلدة هانئة معروفة بالزراعة وبوفرة المثقفين والمبدعين.
مهرجانُها هذا العام (بين مهرجانات قليلة اندفعت للتنفيذ برغم أوضاع البلاد، وحظيت بدعم وزارة السياحة) كان لائقاً بالمكان والجمهور، فانبرى موزار شاهين الى تنسيق سهرة فيه مع فرقة نهوند (بقيادة عازف القانون نهاد عقيقي) قدّمت باقة أغنيات لبنانية بأداء الدكتورة رانيا يونس وغسان شدراوي، وكانت لرئيس لجنة مهرجاناتها حميد معلوف حركة أدت الى بركة حققت مهرجان هذا العام بالأمسية الغنائية، وأمسية مسرحية للأولاد(جيزيل هاشم)، وماراثون بسكنتا صنين زحلة نيحا.
هذا الأمر يؤدي الى أمر آخر: تلك الكنوز التاريخية الآثارية الحضارية في قرانا وبلداتنا والجبال، حيث “مغاور الزمرّد والياقوت” (على تعبير فؤاد سليمان)، لا تزال قصراً على مبادرات فردية تنهض بها وتسوّقها وتجهد في إقامة مهرجانات فيها واحتفالات وأنشطة تستقطب جمهوراً يتعرف إليها ويعود يقصدها في الفعاليات اللاحقة بعدما يكتشف ما فيها.
صحيح أن وزارة السياحة (بما لديها من إمكانات شحيحة وميزانيات ضئيلة وهامش ضيق للتحرك) ليست مقصِّرة في إبراز ما تستطيعه، وفي تسويق ما يمكنها تنفيذه، وفي نشر ما بوسعها بثه عبر الوسائل الإعلانية والإعلامية المتاحة ضمن الإمكانات، لكن المطلوب هنا نهضةٌ أوسع من الاتكال على وزارة أو الاقتصار على بادرة فردية أو الاكتفاء بمبادرة أهلية محلية.
المطلوب وعي إداري مَحلي (على المستوى البلدي) وفعل إداري مركزي (على المستوى الوزاري) ونشاط أهلي مدني (على مستوى السكان المتنورين). فبالعودة الى نيحا، لا يمكن الوصول الى الساحة (حيث المعابد المهيبة والجميلة جداً) إلا بالمرور لا في شوارع البلدة بل في أزقة تكاد لا تتسع لسيارة واحدة، وفي معابر ضيقة بائسة لا يمكن أن يتصورها السائح موصِلَةً الى روعة نحتية أو بنائية أو أثرية كالتي تشعُّ رائعة من جدران معابد نيحا، وسط شجر الحور العالي الذي يظلّل صوت التاريخ.
البلدية فلتبادر، ووزارة الأشغال فلتبادر، ومديرية الآثار فلتبادر، والجمعيات الأهلية فلتبادر، والنوادي المحلية فلتبادر، وجميع الأيدي معاً فلتبادر. هكذا ننهض بالوطن، وهكذا نكون على مستوى تاريخنا العظيم فلا يبقى مجرد موضوع للتغني في الأغاني والقصائد وكتب التاريخ، بل فليتفعَّل ميدانياً وعملانياً لتكون كل بلدة تاريخية أثرية حضارية في لبنان نجمة لبنانية تشع في فضاء الوطن وتنثر شعاعاتها الرائعة على دول الجوار والمنطقة والعالم. ومراراً كان لي أن أزور في العالم بلدات صغيرة غير رئيسة، فأجد فيها متحفاً صغيراً، أو موئلاً تاريخياً، أو واحة أثرية، وجميعُها محفوظة ومؤهَّلة وجديرة بالسياحة والزيارة.
تلك الليلة في نيحا رفدَتْني بالفرح والوجع معاً: الفرح لاكتشافي لؤلؤة جديدة من بلادي اللؤلؤة، والغصة لاكتشافي هذا الإهمال المرعب في بلدةٍ هي بعلبك أخرى لو بادَرَ المعنيون الى رفدها بما تستحقّ.