السبت 19 أيار 2007
– 498 –
دخلتُ عليه في محترفه الجامعي، وكان يعطي درساً تطبيقياً لطلابه أمام “الموديل” الجالسة قبالتهم في وضع مطلوب. لم يرَني دخلت، فاقتربتُ من خلف كتفه أراقب عمله وشرحه وتأكيده للطلاب على مراعاة النور والظل، وحركة الجسد، وزوايا الجسم من متنه الى أطرافه، مع ضربات هنا وهناك بقلمه البارع على كرتونة بيضاء راحت تتّضح عليها ملامح “الموديل” بتشكيلية ممتازة وقاعدة علمية هندسية فنية رائعة، والطلاب مأخوذون بأنامله تلد اللوحة، وبصوته يشرح لهم في دقة ووضوح.
قبيل انتهائه من الرسم تنبّه الى وجودي خلف كتفه فبادرني باسماً: “تعرفني رساماً تجريدياً حديثاً معاصراً، ولا تعرفني انطباعياً كلاسيكياً. لكنّ هذه متطلبات دوري كأستاذ جامعي”. وأجبته سريعاً على مسمع طلابه: “وهل تظنني كنتُ أحترم فنك لو انكَ قفزتَ الى التجريد الحديث المعاصر ولستَ متمكناً من الكلاسيكية؟ كيف يمكن تخريج طلاب يكتبون إن لم يتعلّموا مبادئ القراءة، أو طلاب يعزفون إن لم يتعلموا النوطات الموسيقية، أو طلاب يرسمون إن لم يتعلموا أبجدية اللوحة؟”.
هو هذا، بالضبط، واقع الأمر الذي يشهد فلتاناً فوضوياً سخيفاً في السنوات الأخيرة، مع “هجمة” طارئين دخلاء على الشعر ينثرون كتاباتهم كيفما اتفق، يهذون على الصفحات البيضاء كيفما طاب لهم، أفقياً مرةً، وعمودياً مرات (على اعتبار أن الشعر، بحوراً أو تفعيلة، كتابته عمودية) وراجعين الى السطر كيفما تهيّأ لهم، من دون ضوابط ولا منطق ولا جماليا، ثم يبطحون على غلاف الكتاب كلمة “شعر”.
هذا الموضوع، القديم المتجدّد مع كل طفرة، لن نوقف التشديد عليه، إن لم يكن للذين باتوا ضالعين ولن يقتنعوا (وسوف يغربلهم التاريخ) فعلى الأقل لمن لا يزالون يتلمَّسون طريق الإنتاج (كتابةً أو رسماً أو عزفاً أو تأليفاً في أي حقل إبداعي).
أيضاً وأيضاً نؤكد: لا اعتراض على من يريدون التجديد (بل نحتاج كل موهبة تجديدية) ولكن لا استسهالاً لأنهم ليسوا يعرفون الأُصول فيدّعون أنهم “معاصرون حديثون” يتجاوزون “التقليدي العتيق”. فليعرفوا الأصول أولاً ثم فلينتجوا كما يتزيّن لهم لأن تجديدهم عندها يكون مبنياً على أصول تعصمهم من السقوط في ثرثرة ومجانية واستسهالٍ سيكون عمرُه من عمر الزبد.
هذا لا يعني أن التقيُّد بالأصول يوصل صاحبه حتماً الى الإبداع. فثمة من ينظمون قصيدة “عصماء” طويلة، رنّانة الإلقاء على المنبر، مكتوبة على جميع قواعد العروض والبحور والأوزان والقوافي والجوازات، ولا نقطف منها بيتَ شعر واحداً يهزُّنا بتركيبه أو صورته أو جديده. الكلام المنظوم عروضياً ليس هو الشعر، والكلام المنثور كيفما اتفق ليس هو الشعر.
وما أقوله عن الشعر أقوله عن كل حقل إبداعي آخر. الكلاسيكية ليست موجِباً لكنها الأبجدية التي لا بدّ من امتلاكها حتى ننطلق منها الى أية كتابة أخرى نصبح معها أحراراً في تزويقها ونحتها والتجديد فيها كما تخوّلنا ذائقتنا الجمالية والجماليائية.
أما الادعاء بأن في العمل “موسيقى داخلية يجب اقتناصها” فهراء فارغ لأن الموسيقى التي تتطلّب بحثنا عنها في الثنايا والتلافيف والتلابيب ليست هي الموسيقى، بل هذه هي التي تحملنا إلينا وتطغى علينا، سواء أحببناها أو لم نتذوّقها.
ضمانة التجديد: الكلاسيكية. ضمانة الحداثة والعصرنة: الأصول. ضمانة الارتقاء بالإبداع: القاعدة. ومقتل كل عمل إبداعي: التمسك الأعمى بالكلاسيكية والأصول والقاعدة من دون موهبة الإبداع فيها قبل الانتقال الى التجديد انطلاقاً منها.
هذا ما يجعل ليونار دو فينتشي حديثاً، وبيتهوفن معاصراً، ورودان جديداً، لم يضرهم، مع مرور القرون والعصور وموجات الفن، أنهم اتبعوا الأصول والكلاسيكية ثم أبدعوا من خلالها وخرجوا الى تجديدهم الإبداعي المتأصل في القواعد.
وهذا ما يجعل الفرق في الإبداع بين “موجة” و”موضة” و”صرعة” لا يزيد عمرها عن وجيز وصول الموجة الى الشاطئ، وحبة لؤلؤ متأصلة في العمق لا تهزُّ عمرَها موجةُ “تدرج” أو موضة “تزول”.