السبت 12 أيار 2007
– 497 –
كأنّما لا يكفي اللبنانيين ما يسمعونه ويتابعونه يومياً من قنبلة هنا، وطرد ملغوم هناك، وحقيبة مشبوهة هنالك، حتى يستيقظوا ليلاً من هناءة غفوتهم على أصوات انفجارات مدوّية تُرعبهم وتوقظ أولادهم، فيهرعُوا إلى أجهزة التلفزيون والإذاعة والهواتف الثابتة والنقالة يسألون، يستفسرون، يستطلعون هلعين، ليكتشفوا بعد وقت مُـرٍّ مالح مطاط من القلق والخوف والرعب أن هذه الأصوات ليست سوى… مجرّد أسهم نارية تنفجر في فضاء الليل ابتهاجاً بعرس في فندق أو في مُجمّع بَحريّ.
ومن الطبيعي أن تكون ردّة الفعل شتائم ولعنات تنهال على ذوي العرس أقوى وأفعل من أصوات المفرقعات، لكنها لا تَحول دون تكرارها بعد ليلة أو أُسبوع أو في أيّة ليلة أخرى ليعود الرعب الليلي إلى نوم الناس وهناءة أولادهم وراحة مرضاهم في بيوتهم والمستشفيات.
هل يَحدُث هذا العهر الوقح في بلد آخر تَحكمه دولة؟ طبعاً لا. ليش؟ لأن الدولة هناك تفرض نظاماً وتُوكل إلى أجهزتها الأمنية ذات الصلة تطبيق هذا النظام وفرض هيبته فيرعوي الناس ويرتدعون خوفاً من عقوبة صارمة يُحددها القانون.
أما عندنا فلا دولة تفرض، ولا أجهزة أمنية تطبّق، ولا مواطنين يراعون راحة الناس أو يحترمون النظام أو يهابون عقوبة القانون أو يحسبون حساباً لِهيبة الدولة، فيتصرّفون بوقاحة العُهر الذي يعرف أنْ لا حسيب عليهم ولا رقيب.
طبعاً ليس المقصود من هذا الكلام منْع الناس من الاحتفال بأعراسهم، ولا تقييد أساليبهم في الفرح، ولا إزالة ترجمة هذا الفرح بالألعاب النارية والمفرقعات، إنما يُمكن أن يكون هذا الابتهاج في ساعات المساء الأُولى قبل أن يَخْلُدَ الناس إلى الراحة والنوم. وما الفرق في إطلاق الأسهم النارية عند أول المساء أو في منتصف الليل، طالما المقصود في كل هذا الابتهاج أن يبرهن العريس الحنشليل لعروسه ذات الصون والعفاف أنه يرضيها ويُرضي “التانت” والدتها المصون حتى تظل أَسابيع بعدها تُخبر صاحباتها بأن صهرها “سندة ظهرها” برهن عن حبه لابنتها “تقبر قلبها ان شالله” بعرس أظهر فيه كرمه وتكريمه وإكرامه.
ذات فترة صدر عن وزيرٍ للداخلية قرار يمنع إطلاق المفرقعات والأسهم النارية بدون إذن مسبق من الوزارة، ويُحدّد الفترات المسائية أو الليلية المتاح فيها إطلاق الأسهم النارية والمفرقعات. فهلّلنا بأن الدولة “واعية على شغلها”، لكن القرار بقي حبراً على ورق لأن الأسهم النارية بقيت تُقلق الناس، والمفرقعات بقيت توقظ الأطفال والمرضى والنيام جميعاً، وبقي القرار في أدراج المعنيين بإصداره وتنفيذه، وبقي الناس (ولا يزالون) يلعنون الدولة الغائبة عن تأمين راحة الناس بينما هي حاضرة في فرض الضرائب عليهم من دون رحمة ولا مهادنة.
يعود الأمر في كل هذا إلى غياب “هيبة” الدولة، وهو واضح وملموس في كل فاصلة من فواصل النهار والليل بدءاً من غياب هيبة الدولة عن الطرقات وتطبيق قوانين السير، مروراً بغيابها عن تزفيت الطرقات الرئيسة التي أصبحت جلالي بطاطا أين منها أراضي الوعر في أقاصي مجاهل الأمازون، ووصولاً إلى غياب هيبة الدولة عن مرافق حيوية يتولاها مسؤولون أو مواطنون عاهرون يغتصبون القانون والقرار ويعرفون أنْ لا حسيب عليهم ولا رقيب.
نفهم أن الدولة الآن مشغولة بأمور كثيرة على المستوى السياسي، لكننا لا نفهم لماذا لا يقوم المسؤولون الإداريون (من المدير العام وما دونه في هرم الوظائف) بتطبيق القانون الموجود حتى يعتاد الناس على احترام هيبة الدولة ووقف عهرهم ووقاحتهم فيحسبوا حساب العقاب الذي بغيابه أصبحت كل مخالفة عندنا متاحة كأننا في غابة بدائية متوحشة بلا قوانين.
هجرة أبنائنا؟ ليست تتزايد بسبب الوضع السياسي والأمني وحسب، بل كذلك (وربما خصوصاً) بسبب غياب هيبة دولة لم يشعروا أنها… دولة.