السبت 10 آذار 2007
– 489 –
لكان هذا العام يبلغ الثمانين (1927-2007) لو لم ينقصف به العمر في عز الربيع عن 45 ربيعاً. وأمس الجمعة مرّت ذكرى غيابه الرابعة والثلاثون (10 آذار 1973- 10 آذار 2007).
في كل حديث عن النثر العالي يكون الحديث عن أنطون قازان. وعند الكلام على لبنان العالي يكون حاضراً أنطون قازان. لكأنه ربيب الكلمة المضيئة، وركنٌ عميدٌ من لبنان المضيء.
معه يتخذ النثر مجداً، فالكلمة عنده صنعة في خدمة الفكرة، ومباغتة في خدمة الجمال. والنص من قلمه تحفة أدبية يشتغلها بدُربة الجواهري المترف الأنيق، أو بمهارة العطار في تركيبة الأرج. لذا يتكرّس النثر معه فناً عظيماً لا يقلُّ أبداً عن هيبة الشعر وفخامة الشعر وصعوبة الشعر. من هنا أن نصه عمارة أدبية مبنيّة على الجمال ينافس بها أية عمارة شعرية من شاعر عظيم.
تلك الطُّرَف اللآلئ وَسَّعها عن أفقه الشخصي وراح يغدقها على أتراب له وأصدقاء وكبار، كاتباً عنهم في مناسبة لهم، أو مقدِّماً إياهم على منبر، أو صدّاحاً بهم عند ناصية مهرجان، حتى لهو المنتظَر دوماً في الكتابة ومن المنبر وفي ألق المهرجان.
ملأ الساحة الأدبية بعمر كتابيٍّ وميض لم يتجاوز العقدين، منذ مقالاته الأُولى في مجلة “الرسالة” (1955) حتى نصوصه الأخيرة قبل الغياب (1973) فلم يبقَ كبير في لبنان إلاّ تطرّز بقلم أنطون نابضاً في أيما عرفان وأيما وفاء، وبقيت كلماته فيهم من أغلى ما حملوا الى مخزوناتهم أحياء، وأغلى الذي بقي مما قيل فيهم بعد الغياب.
“نصف شعري كان كي تقرأَهُ” قال فيه سعيد عقل باكياً صداقته الغالية، و”ما كان أكبره: قد كان إنسانا” قال فيه عمر أبو ريشة الذي ما زلت أذكر كيف “داهمتُهُ” يبكي وراء شجرة وارفة عند طرف ساحة كنيسة مار ضومط في زوق مكايل، نهار كنا نودّع أنطون الوداع الأخير، وما إن لمحني حتى وضع يده على كتفي واختنق بالدمع: “راح أنطون يا هنري”.
من أحبهم أنطون، أحبهم بشغف النبل. ومن أحبوه، أحبوه بنبل الوفاء. ولا يمكن أن يمر دارس على الحركة الأدبية في لبنان بين منتصف الخمسينات ومنتصف السبعينات من دون استشهاده مراراً بكلمات أنطون في أعلام هذه الحقبة الغنية المباركة.
ويشغف بزوق مكايل، بلدته الغالية “أُمّ القباب السبع والتقاليد العريقة” فيشغف باستذكار شاعرها الياس أبو شبكة ينصفه غداة غيابه (1947): “وُلد الياس أبو شبكة في الخامسة والثلاثين من عمره، في 29 آب 1938، على يد الدكتور فؤاد حبيش في عيادته الشهيرة “دار المكشوف”. وهكذا: قبل “أفاعي الفردوس” كان في الزوق شاعر. أما بعدها فالشاعر الياس أبو شبكة، وبين الاثنين ما يفوق الولادة”.
وبهذا الشغف نفسه رأى لبنان وطناً للجمال والإبداع، فكتب فيه ومنه وله، مؤمناً برسالة لبنان الخالدة، عاملاً “في سبيل حضارة كريمة ووطن رساليّ”، ومبشِّراً بأنّ “لبنان ليس مساحة أرضية، بل هو نقطة قطبية ملاكاً ومداراً، وعدسة ضوئية يستعملها ضعاف النظر لتكبير الأحجام”. وهل أبلغ من هذا الإيجاز في تصوير لبنان اللؤلؤة، واحة إبداع ومبدعين؟
مع أنطون قازان يتألّق لبنان في نبضه الأغلى: نبض الرسالة التاريخية التي لا يخدشها غبار سياسي كالذي يهفّ هذه الأيام، ويتألق الأدب في نبضه الأعلى: نبض الجمال الأنيق الذي لن يخدشه هذيان كتابي كالذي يهرّ هذه الأيام.
مع أنطون قازان، نحن شهود العَبَق في جونة العطار، ونُسَّاك الهيكل في معبد الجمال، نأنس إلى الداخل مشيحين عن كل خارج. ولا بدّ للعاصفة أن تمر ويطل الربيع وتهل أفواج السنونو وتهب أنسام الزنبق والسوسن، فلبنان أنطون قازان هو لبنان الحقيقي الذي لا تغيب شمسه مهما حجبتها الغيوم السود، ولا يذوي ربيعه مهما هاجت عواصف الزمن العابر.