488: “محبرة” جوزف حرب

السبت 3 آذار 2007
– 488 –
1725 صفحة. 29 باباً. 385 قصيدة. إذا كان “الرقم أبلغ من الكلمة” (كما يقول سعيد عقل)، فوحدها هذه الأرقام تفي لتعطي فكرة عن حجم ليست قيمته في حجمه بل في مضمونه الدسم البليغ الذي ملأ هذا الحجم بالشعر العالي.
هذه الأرقام أعلاه ليست لموسوعة ولا لقاموس موسوعي ولا لمجلد يحوي الأعمال الكاملة. إنه مجلد واحد لكتاب واحد. كتاب شعر. كتاب شعر واحد. إنه “المحبرة” للشاعر اللبناني جوزف حرب. صدر عن “منشورات رياض الريّس” في مغامرة جريئة ليست جديدة على رياض المغامر الناجح في الصحافة والنشر والجرأة المسؤولة.
وهو كتاب ذو رؤية: “مجموعةٌ شعريةٌ للكون أرسلها إلَيَّ لكي أنقِّحَها له. هي ستُّ غيماتٍ عليها خَطَّ ستَّ قصائدٍ جُمِعت بديوانٍ يسمّى الخلْق”. وإذ يطرح “الكون” حول كتابه السؤال على الشاعر “هل هو صالحٌ للنشر؟” يختم الشاعر الكتاب مطمْئناً الكون: “يا مبدعَ النص العجيبَ: الحبر، نصٌّ بهيٌّ صالحٌ للنشر”.
وعلى مدى 1725 صفحة يُمسك جوزف حرب قارئه بقصائد دائرية (تفعيلة مدوّرة) غاب عنها الشكل الكلاسيكي (صدر، عجز، قافية واحدة،…)، وحضرت فيها براعة شعريةٌ عالية مرّ فيها الشاعر على التفعيلات معظمها (فاعلاتن، فعْلُن، فعِلُن، مفاعلن، متفاعلن، مستفعلن، مفاعيلن، فعولن، … مع جوازاتها وزحافاتها) حتى كأن المجموعة معرض بهيٌّ للتفعيلات في عرض جميلٍ أنيقٍ لقدرة التفعيلة على خلق موسيقاها وسط غالري واسعة من التنويعات الواضح كم يسيطر الشاعر على مفاتيحها وبراعة عرضها لأداء صوتها والمضمون.
ولا يأخذ الشكل أعلاه من وهج معالجةٍ فلسفيةٍ ذات مضمون عميقٍ على بساطة، بليغ على سلاسة، في لغة متينة السكب على سبك سائغ، وحبكة مترابطة (كما حال كبار الروائيين في الإمساك بشخصياتهم الروائية توازياً مع الخط الروائي)، وتطرّز كلَّ ذلك صوَرٌ شعرية تفاجئ بجمالها وجديدها (ومن أرفع علامات الشعر: كسر المتتاليات النفسية المألوفة قولاً واستعمالاً)، وكل هذا السِّفْر ممسوك بنفَس شعري وفكري وأدائي واحد لا تعب في فاصلة منه ولا ضعف ولا بطء، حتى كأن هذا الكتاب الضخم مكتوب كله في شهقة واحدة بدون توقُّف.
ويزيد من متعة قراءته أمران شكلانيان: كونه مُشَكَّلاً تشكيلاً كاملاً (ما يلغي اللُبْس في فهم أي كلمة أو عبارة أو فقرة، وما يحترم دقة قراءة الوزن والتفعيلة، كي لا ينجرح الشعر)، وكونه خالياً من الأخطاء الطباعية (إنجاز، على ضخامة الكتاب، يستحق التنويه)، ويضاف الى هذين أمرٌ شكلي ومضموني معاً: التشكيل الفانتازي الذي اختاره الشاعر لتطريز تقطيع الأبيات على الصفحة كما حلا له، من دون قيود تفعيلية ولا تقليدية، فتمرجح على هواه فوق بياض الصفحة ورشرش كلماته في موسيقى بصرية جميلة كما يتصرَّف الرسام بريشته على هواه فوق القماشة البيضاء.
هكذا يتخطّر القارئ في صفحات هذا الكتاب الشعريّ الضخم، مستمتعاً بشاعرية عالية نعرفها من جوزف حرب (السيّد في الشعر الكلاسيكي والنيوكلاسيكي وفي الشعر العامي، والسيّد في النثر الجمالي الأنيق) وهو الراهب في هيكل الشعر، المترسل له في انصراف الشغل الجاد، الخفيض الصوت الذي يُطلع من بحته المتواضعة بركاناً من النبرة الشعرية العالية.
هذا ليس عرضاً للكتاب ولا قراءة إياه. إنها تحية الى الناسك في هيكل الشعر جوزف حرب، أهدى كتابه “الى الموت” لأنه يدرك، حتماً يدرك أن الشعر هو التحدي الأكبر في وجه موت يوقف الدم في شرايين الشاعر حين يطفئ جسده، لكنه لا يمكن أن يمد يده الى حبر الشاعر بعد خروجه من المحبرة لأن الحبر في شرايين الكتاب أقوى من الدم في شرايين الشاعر، ولن يقدر الموت أن يغتال حبراً سال من قمقمٍ عجيب كما “محبرة” جوزف حرب.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*