السبت 24 شباط 2007
أبو ظبي – 487 –
إذا كان طبيعياً أن ألتقي حولي في أبو ظبي لبنانيين جاؤوا للاستقبال أو للتحية، بين مَن أعرفهم ومَن أعرف عنهم أو مَن يعرفونني عن بُعد، فاللافتُ ما رحتُ أعرفه تباعاً عن مراكز عالية يتبوّأُونها هنا، رجالَ أعمال ناجحين استقطبوا ثقة المواطنين، مسؤولين كباراً اكتسبوا ثقة رؤسائهم من أبناء البلد أو مدرائهم الأجانب، أو موظّفين في مؤسسات مختلفة من كل نوع.
ولم يكن في لقائي إياهم أيُّ استفهام (كما في الماضي كان يواجه الوافد من لبنان الى جالية لبنانية في الخارج) أو استفسار حول الحالة في لبنان لأنهم يتابعون الفضائيات اللبنانية ويتلقّون أنباءها بمروحة واسعة من مشاعر تتراوح بين الغضب واللعنة والوجع والحرقة والأسف والقرف. وإزاء كل ما يجري، انقصف الحنين لديهم، فلا رغبة عند أحد بالرجوع، بل بتثبيت مركزه حيث هو، مع كل الولاء للبنان الأهل والذكريات، وكلّ الوفاء للبلد الذي يحتضنهم ويوفّر لهم الأمان والمستقبل، ويحميهم بالنظام طالما هم يحترمون النظام، ويُسدي لهم حقوقهم طالما هم يقومون بواجباتهم تجاه عملهم وقوانين البلد.
وبعد أمسيتي عن الأخوين رحباني شِعراً ومسرحاً وبعض سيرة (في المسرح الوطني الذي افتتحته فيروز سنة 1984) وشرحي مفاصلَ لديهما شعرية ومسرحية (احتفاءً بتوقيع كتاب الدكتور مفيد مسوح “جماليات الإبداع في المسرح الرحباني”) تحلّق حولي من الحضور أحباب لبنانيون، دامعين أو موجعين، راحوا يُلْسِنون حرقتهم من الفارق الصاعق بين لبنان الأخوين رحباني ولبنان السياسيين، بين ما كان عليه لبنان أيام مهرجانات بعلبك والأرز ومسرح البيكاديلي، وما آل إليه لبنان اليوم من كيديات ومهاترات وتشاتُمات واعتصامات ومُخيَّمات وعنتريات ودونكيشوتيات وهتلريات وشخصانيات ومتاريسيات ذات ارتباطات وسياسات محليات وخارجيات، و”طموحات” ذات صلات، حتى ليرتبك اللبنانيون في الخارج حين يلتقون أصدقاء لهم ومعارف وزملاء من بلدان أخرى يطرحون سؤال: “شو صاير عندكم بلبنان!!!” ويَتَخَرسَن الجواب في عيون اللبنانيين.
ولأن الحضور اللبناني قوي في دبي وأبو ظبي على مختلف الصعُد الإدارية والفنية والمالية والمؤسساتية والعمرانية والفندقية والتكنولوجية والكومبيوترية والثقافية (لا يَخلو شهر من معرض لفنان لبناني أو مُحاضرة أو أمسية لكاتب لبناني) يشعر الزائر اللبناني هنا بفداحة فراغ لبنان من مواهب أبنائه وطاقاتهم ومهاراتهم، كأنما حبلت بهم أمهاتهم واغتبط بهم آباؤُهم وأذابوا عمرهم لتخريجهم بأعلى مستوى، واعتزّ بهم لبنان، كي تتلقّفهم دول العالم ويفرغ من طاقاتهم لبنان.
ولماذا يفرغ؟ لأن مالئي لبنان اليوم هم (من غير شرّ) “بيت بو سياسة” الذين لا يشعرون (أو لا يهمُّهم بساديَّتهم وشخصانيّتهم أن يشعروا) بفراغ لبنان من أدمغة أبنائه المبدعين الْمُجلّين في كل حقل وقطاع، حتى ليبقى في لبنان القاصرون عن الرحيل أو المعاندون (تشبُّثاً طوباوياً، مثلي) في عدم الرحيل، طمَعاً بسوسنة أمل تطلع من شقوق صخر اليأس.
وما أقوله عن أبو ظبي أو دبي ينطبق على أية مدينة أو دولة أخرى في العالم، بدءاً من ابني (وحيدي) الذي ما زال (منذ 21 عاماً) ينتظر بارقة ضوء ثابتة كي يأتي لا للعودة مقيماً بل زائراً مطمئنّاً الى أمنه وأمانه وسلامته وسلامة عائلته الصغيرة، ولا يزال (كأي مهاجر في الدنيا ابن أيّ لبناني مقيم) لا يفهم كيف ولماذا يبقى لبنان دوماً بين فكّين ضروسين يتغيّران كل ظرف وفق الظرف ويبقى لبنان بينهما ضعيفاً مَخنوقاً مزنوقاً لأن من حكموه منذ استقلاله بَنَوا مزارع لأبنائهم ولم يبنوا دولة لأبنائها.
أبناؤُنا في الخارج يعيشون في بلدان تحكمها دولة لا مزرعة، لذا يتابعون ما يجري في لبنان فتغيب عنهم نوستالجيا العودة وتنشب مكانها لعنةٌ شاتمة غاضبة على سياسيين في لبنان جعلوا لبنان شلْواً مشلولاً وما زالوا ينهشون جسمه الجائع ليُشبِعوا مصالحهم غير آبهين لرحيل أكبر رعيلٍ من أبنائنا هاجروا وتلقّفت عقولهم البادعة وأيديهم البارعة دولٌ تمتلئُ بمهاراتهم وطاقاتهم، فتملأ بهم مستقبلها ويفرغ من مهاراتهم وطاقاتهم لبنان.