السبت 17 شباط 2007
– 486 –
مساء أمس الجمعة كانت الذكرى الخمسون (16 شباط 1957- 16 شباط 2007) لغياب مصطفى فرُّوخ.
نصف قرنٍ عبَر، وهذا النابض في لوحاته، شرياناً حياً من النكهة اللبنانية، حاضر في ذاكرة الرسم اللبناني (واستطراداً العربي)، قامةً أصيلةً أصالةَ الكلاسيكية الخالدة التي لا الى انطواء.
مقهوراً مات (كالكبار الذين يَجحدهم مُحيطهم وعصرهم حين يسبقون مألوف محيطهم ومتتاليات عصرهم). غير أنه ترجم قهره عمراً من الدقّة وحب التحدي في محاكاة المرسوم، حتى لهو صنو الطبيعة (مضافة إليها لمسته الإبداعية)، وصنو الوجوه (مضافة إليها رقشته التي تقرأ الروح في العين، والقلب في الوجه، والنفسية في الملامح)، فإذا بريشة فروخ عنوان، حيثما يكون، ومنه يبدأ التعريف الى سائر المشهد أو الوجه أو المنظر.
وليس نقصاً في أن تكون ريشته بنت مناخ روما أو تقنية فلورنسا أو مدرسة باريس، فأيُّ طرح هو مَن لا ينتمي الى جذوع طلع منها، وأيُّ أصيل هو من يكون في جذوعه ابن جذور لا يخونها قلباً ولو استعار لها السوى قالباً؟
بهذه الأصالة تميّزت رقشة فروخ، ولا تزال نكهتها حتى اليوم طازجةً شهيةً تفوح منها لبنانية كم اغتربت اليوم مع ما تتالى منذ نصف قرن ويزيد (ولو ان المقصود هنا ليس الانحصار في رسم صنوبرة أو تصوير فلاّح، إنما كونية الفنان تبدأ من محليته نكهةً أو لوناً أو أسلوبَ تعبير، ثم تتوسَّع الى العالمية الشاملة حاملةً معها بصمة الهوية الأصلية).
وبهذه الريادة يبقى فروخ ثابتاً في رسوخ لوحته متينةَ الحبكة التشكيلية ألواناً وخطوطاً وفروقاتٍ لونيةً، وملامح يندهك فيها التفصيل بمقدار ما يلفتك الكُل الذي هو عمارة لديه من نسيجٍ عذبٍ سائغ.
ومن الريشة الى اللون الى سكتشات القلم الرصاص، باقيةٌ نصاعةُ ذاكرةٍ وتَحدّي براعة، كما في خطوطه العجلى الموجزة بالحبر الصيني لوجوه من معاصريه لا تزال حتى اليوم تلقانا (وجه صديقه الياس أبو شبكة، استشهاداً) في صفحة مجلة أو على غلاف كتاب أو عنوان صدارة. وبذلك أرّخ فروخ وجوه حقبة كانت (لولا ريشته بالحبر الصيني) ضاعت في إهمال أرشيف، أو نسيان وريث، أو فقدان إرث.
وسط ما يُحيط بنا من رَوَاهِن، وما يُحيق بنا من عَوَاهِن، لم يتذكّر أحد فروخ في خمسينية وفاته. غير أن “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأميركية لم يَغفَل عن الخمسينية. ولأن موقع ذكراه أمس (16 شباط) كان سيضيع في حمأة قلق الناس على الحالة الراهنة، وفي بركان التجاذُبات الميدانية على الساحة السياسية الأمنية، تأجَّل الاحتفال بالذكرى الى ندوة في الجامعة نهار 11 نيسان (ذكرى مأتم جبران غداة وفاته في 10 نيسان 1931) على أن يستمرَّ طوال شهر نيسان المقبل معرضٌ لفروخ يضم مجموعة من لوحاته الزيتية والمائية والرصاصية، ومجموعتين (يحتفظ بهما “مركز التراث اللبناني” في الجامعة): أُولى من أغراضه الخاصة، والأُخرى من دفاتره ومخطوطات ومقالات له وأفكار ودراسات ومحاضرات صدر معظمها لاحقاً في كُتُب.
كل هذا التراث الفرُّوخي ما كان يمكن أن يبلغنا بهذا الحفظ الأمين لولا عناية هاني فروخ الذي صرف عمره (منذ نصف قرنٍ ولا يزال) في الاهتمام بتراث أبيه لوحاتٍ ومخطوطاتٍ ومقتنيات، في حرص حنون على الإرث العظيم الذي تركه له مصطفى وأغمض عينيه مطمئنّاً الى حفظ الأمانة وصيةً الى الأجيال اللاحقة.
في أربعين مصطفى فروخ (الوست هول- الجامعة الأميركية – آذار 1957) قال سعيد عقل: “مصطفى فروخ إننا نحبك”. واليوم، بعد نصف قرن على غياب فروخ وفي ذكراه الخمسين، لا نجد ما يفي هذا الرائد اللبناني الخالد إلاّ الإحاطة بتراثه ونحن نردد: “مصطفى فروخ إننا نحبك”.