السبت 3 شباط 2007
– 484 –
لا يصحّ، كما اليوم، عنوان كتاب ناديا تويني “الأرض الموقوفة” للدلالة على ما بلغه لبنان من تأزُّم وتَحَجُّر وموات في كل قطاع حيوي، كأنه كان في خيال ناديا تويني، برهافتها الشاعرية النادرة، كابوساً استباقياً لِما آل إليه وضعُ لبنان اليوم.
كلُّ ما في لبنان موقوف. في نظارة السياسة موقوف. في نظارة الدول موقوف. في نظارة المفاوضات الخارجية (من فوق رأسه أو نيابة عنه) موقوف. فإلى أين؟ والى متى يا جهابذة السياسة الذين أوصلتمونا إلى حصيلتكم العبقرية في التدمير؟ وهل تشعرون بأهمية الوقت الذي يمضي بنا وينحر عمرنا ويجعلنا نلعق دماءنا من مبرد سياساتكم الشخصانية الموتورة؟
يوم توفي الأمبراطور الياباني الأخير، دعا رئيس الحكومة إلى اجتماع للتداول في إجراءات مراسم التشييع وفي ما إذا التوقُّف عن العمل في كل البلاد حداداً يكون دقيقةً واحدة أم ثلاث دقائق. وفي الاجتماع الوزاري عرضَ وزير الاقتصاد دراسة عما يلحق بالاقتصاد الياباني إذا توقف العمل في البلاد دقيقة واحدة، وما يلحق به إذا كان ثلاث دقائق. وبعد التداول أجمع الوزراء على أن يتوقّف العمل في البلاد دقيقةً واحدةً فقط (احتراماً لوداع الأمبراطور) ثم يكمل كلٌّ عملَه في مكان عملِه.
وعن صديق زار اليابان سياحةً قبل سنوات، وكان في القطار المتجه من الضواحي إلى طوكيو في رحلة تستغرق ساعتين و57 دقيقة، أنّ الركاب، بعد نحو ساعتين على انطلاق القطار، فوجئوا بمذيع من مقصورة القيادة يعلن أسف القائد أن عطلاً فنياً طرأ على القطار سيستوجب تأَخُّر وصوله ثلاث دقائق، فتستغرق الرحلة ثلاث ساعات بدل ساعتين و57 دقيقة. وكرّر المذيع هذا الإعلان مراراً معتذراً للركاب عما قد يسبِّب لهم هذا التأخير من ضرر.
وعن حكاية يابانيّة قديمة أن محارباً من “الساموراي” سأل بوذياً حكيماً من “الزن” أن يصف له الفردوس والجحيم، فأجابه الحكيم بازدراء: “أنت حثالة لا أضيّع وقتي مع أمثالك”. غضب المحارب وشهر سيفه: “سأقتلك على وقاحتك”، فقال الحكيم بوداعة : “هذا هو الجحيم”. ارتدع المحارب من كلام الحكيم ووعى أن غضبه كاد يجعله مجرماً لا محارباً شريفاً، فأغمد سيفه وانحنى شاكراً الحكيم على هذا الدرس فقال الحكيم:”وهذا هو الفردوس”. ومضى المحارب مُمتنّاً من درس الحكيم الذي نبّهه إلى أن الفردوس هو في التنبّه إلى أنّ الغضب يحوّل الإنسان في لحظة إلى مجرم جحيمي لا تنطفئ نار ندمه على التسرُّع.
الشاهد في هذه الشواهد الثلاثة من اليابان: كيف العالم المتحضِّر يستخدم الوقت (دقيقة حداد عوض ثلاث) وكيف يلحظ 3 دقائق (لرحلة قطار من 3 ساعات)، وكيف يتروّى كي لا يُحوّله انفعال الغضب من نعيم الحوار إلى جحيم الدمار.
فكيف لا نشعر بالخجل حين نقارن بين استخدام الوقت واستيعاب الآخر في العالم المتحضر، وبين التخلُّف عندنا في هدر الوقت وهدر العمر وتعطيل الدروس والأشغال والمصالح وتوقيف الحركة السياحية ووقف الحياة السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية، بسبب عناد سياسي شخصاني من هنا، وعنادٍ سياسي موتور من هناك، والبلاد كلها موقوفة ومتوقّفة عن الحياة والحركة والعلم والتعلُّم والمدارس والجامعات والدوائر والمؤسسات والوزارات وحتى مجلس النواب، مما يخنق بلادنا بدخانٍ أسودَ من اليأس والموات يحمل البقية الباقية من شبابنا على الهجرة إلى أي مكان في العالم يقيس وقته بالدقائق لا بالساعات، ويتعامل مع الآخر بفهم واستيعاب وحوار لا بالموت الموتور المعاند القابض على مفاصل لبنان بسبب بعض سياسييه.
أمام هذه الصورة العبثية البشعة الوقحة المُذِلّة التي وضع لبنانَ بها سياسيوه، بشكل أو بآخر، بموقف أو بآخر، بعنادٍ أو بآخر، ينظر العالم بشفقة إلينا كما إلى من يمارسون الهيراكيري اليابانية فينتحرون جماعياً ليَحُولوا دون وصول بعضهم إلى الحكم أو دون مشاركته في الحكم، والأخطر من الحالتين: أن يكون في النوايا الخبيثة المأجورة تحويل وطن “الأرض التاريخية” إلى وطن “الأرض الموقوفة” في زنزانة المصالح الإقليمية والدولية على حساب شعب لبنان.