السبت 16 كانون الأول 2006
نيويورك- باريس -477-
المشهد من الخارج أكثر مأساويةً وإيلاماً، وأكثر مدعاةً لإثارة الشفقة والغضب واللعنة والشتيمة. فبين مطارَين (باريس ونيويورك) وإقامتَين (فلوريدا وميريلاند) رأيتُ الناس حولي هانئين مَحميين بوطن ودولة ونظام وانتظام وانضباط، يعيشون بسلام وأمان ويتهيَّأُون للأعياد، لا مذاهب تفصل بينهم ولا طوائف ولا عقائد ولا أديان ولا “ساحات”، كلٌّ يصلي وحده في كنيسته ومسجده ومعبده وهيكله، وينضوون جميعهم تحت راية الوطن الواحد والدولة الواحدة والنظام الصارم الواحد! وتروح تكبر في رأسي أسئلة موجعة تَجلدني وتزدحم قاسيةً بين استفهام ومعاتبة ولوم ومُحاكمة، فأصرخ من ثورة ورفض وغضب وقهر معاً:
أكان ضرورياً كلُّ هذا الذي جرى (ويَجري) من أجل بلوغ مطالب لا يُمكن في النهاية بلوغها إلاّ باللقاء فالحوار؟
أكان مُلِحّاً إلى هذا الحدّ استخدامُ الشارع لنيل ثمار العناد السياسي والكباش السياسي (من أية جهة كان العناد والكباش)؟
أكان مُهمّاً تسخيرُ أهالينا وشبابنا وصبايانا دروعاً بشرية مرميّة في قلب بيروت تتجاذبهم هذه الجهة السياسية أو تلك؟
أكان لازماً، وفي هذه الحقبة المصيرية الشرق أوسطية بالذات، كلّ هذا الخراب (السياسي والاجتماعي والاقتصادي والسياحي والنفسي) من أجل ثلث معطّل (أو “ضامن” زائد واحد)، أو من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية لا يرفضها أحد؟
وهل هذه الظاهرة (إفلات الناس في الشوارع والخيم والشعارات والشارات والبيارق والتهييصات والتعييشات والاعتصامات والاعتكافات والاستفزازات …) ستصبح لاحقاً عادةً لدى كل فريق كلما أراد بلوغ مأرب سياسي على قياسه؟ وهل الناس، إلى هذا الحد، ينصاعون قطعاناً لهذا أو لذاك من “بيت بو سياسة” لا لسبب إلاّ لأن “القائد” أمر بذلك فيأتَمرون؟
وشبابُنا – أولادنا الطيبون الأحبّاء الغالون على قلوبنا ووطننا – أينالون مطالبهم ومستقبلهم وفرص عملهم ونجاحاتهم الجامعية – إذا زعماؤهم (الذين أمروهم بالنّزول إلى الشوارع والخيم) نالوا مطالبهم القيادية السياسية والشخصية والشخصانية؟
وهذا الزلزال الذي أحدث صُدوعاً وشقوقاً ونزفاً رهيباً فظيعاً في الشعب الواحد، في المنطقة الواحدة، في الحي الواحد، في البيت الواحد، في العائلة الواحدة، الزلزال الذي لم تستطع تفجيره قوى الشر الخارجية ولا الأيدي المخرّبة الخارجية، كيف؟ (كيف؟!) يُمكن أن نَروي لأولادنا وأحفادنا غداً أننا فجَّرناه بأيدينا فانفجر بنا جميعاً وتشظّينا فِرَقاً ومذاهبَ وطوائفَ وأحزاباً وتيارات واستسلامات واستزلامات لهذا أو ذاك أو ذلك من قادة سياسيين عوض أن يَسُوسوا البلاد إلى غدِها ساسوها إلى قرونها الوسطى فيما دول الجوار والمنطقة تشهد ازدهاراً ونُموّاً واستقراراً وتطلُّعاً إلى غد شعبها ووطنها ودولتها ومستقبلها المثمر؟
وهذه الموضة المتخلّفة: أن يكون الشعب (أو بعضه ولو القليل) مجموع أغنام في قطعان السياسيين (من كل جهة، من كل حزب، من كل اتجاه) أو أن تكون فصائل من شعبنا فئران مختبرات في عناد السياسيين ومواقفهم واختبارهم قوّتَهم في الشارع، عوض أن يكون السياسيون في خدمة الشعب يحاسبهم ويراقبهم ويناقشهم ويناقضهم ويعاقبهم في صندوقة الاقتراع، هذه الموضة البشعة التافهة متى ستنتهي في بلادنا فنعبر من قاموس التخوين بين السياسيين إلى أبجدية التهذيب في الخطاب السياسي وننتقل إلى العالم المتمدّن المتحضِّر عوض أن يرانا العالم حثالةً سياسيةً منْزوية في أقصى العالم السياسي الثالث والثلاثين؟
وهل نستاهل، يا “بيت بو سياسة” جميعاً، هذه النهاية التي بسببكم بلغناها: بعد أن كنا قبلة الشرق صرنا دولة مفكّكة قاصرة تنادي على دول العالم (حتى أصغرها) كي تَهرع إلينا تساعدنا وتتوسَّط بينكم وأنتم على بُعد أمتار من بعضكم البعض؟
في بيروت متاريس بشرية على أكتاف ناس طيّبين في الشوارع والخيم ينامون في البرد والعراء وقادتهم دافئون في بيوتهم، وفي الخارج أسئلة تَجلد اللبنانيين في العالم فتُحرقُهم بنيران بركان من لعنة وغضب، من كفر وشماتة وقرف حتى أقصى الشتيمة.