السبت 2 كانون الأول 2006
-475-
تكبر الصرخة في كلّ مكان. من كلّ الجهات. مَن هو “مع” ومَن هو “ضدّ”. مَن “يوالي” ومَن “يعارض”. كلُّ فريق يشدُّ بالصبي على أنه “ابنه”. وكل فريق يدّعي “المشاركة” ويطالب بـ”المشاركة”، ومن أجل “المشاركة” يقوم بما به يقوم. وفي هذه الأثناء، يصرخ الصبي ولا من ينتبه إليه. يصرخ من الوجع. من الخوف. من الذعر. من الرُّعب. ولا من ينتبه إليه. كل واحد يحمل قميص الصبي وينادي به وعليه. كلّ واحد يدّعي أنه يعمل لخير الصبي. ويناضل من أجل الصبي. و”يتظاهر” لتحصيل حقوق الصبي. وينْزل إلى الشارع لإثبات “ديمقراطية” الصبي.
وفي هذه الأثناء، ماذا يحصل؟ في الخارج: الدول تهددنا بإلغاء “باريس3″. في الداخل: الاقتصاديون يصرخون مذعورين منبّهين مهدِّدين. والسياسيون يتكابشون متعسكرين في متاريسهم: هذا 14 آذار، وذاك 8 آذار، وتتقابل المتاريس والشوارع. ويتصاعد العناد و”الكباش”. ويهتاج الشباب والجامعيون. ويحملون الأعلام والشعارات واليافطات. شاشات التلافيز تعجُّ بالـ”سكوپـات” تسابُقاً على استضافة “المحللين” و”المسؤولين” و”الخبراء” إلى برامج الـ”توك شو” السياسية. ومقدِّمو فترات الـ”توك شو” يتنافسون مع ضيوفهم على إثارة غرائز (لا مشاعر) الأعزاء المشاهدين. غرائزهم السياسية والفئوية والدينية والمذهبية والطائفية والتحريضية (ولو مغلّفةً بالكلام على الديمقراطية والوطنية و”الاتحاد الوطني”). والناس بين الخوف واليأس. بين الحزن والغضب. بين الشتيمة واللعنة. بين الانفجار والانتحار. بين ركوب أول طائرة أو إقفال آخر باب.
في هذه الأثناء ماذا يحصل؟ كأنَّ الذي يحصل: مشهد سوريالي عبثي يجري في وطن ليس لنا. كأنّ الدولة ليست دولتنا. كأنّ الاقتصاد الذي ينهار هو اقتصاد بلد آخر لا يعنينا. كأنّ الخراب الذي بدأ غولُه يفترسنا هو خراب ناس آخرين. كأنّ لبنان الذي ينهار سقفه علينا هو وطن في الحلم نصحو منه إلى أعمالنا كالمعتاد، أو في فيلم سينما نشاهده ثم نخرج منه أصحاء معافين.
في هذه الأثناء، تزداد الاصطفافات. تتزايد الصيحات التأييدية: “بالروح بالدم نفديك يا…”، وعند كل ناصية من الشارع تتغيَّر الـ”يا” بين اسم هذا أو ذاك من “بيت بو سياسة”. ويتوغَّل عناد السياسيين (بل “كباشهم”) في تعميق السكّين (بل الخنجر الطعّان) داخل خاصرة الوطن وقلب الوطن ورأس الوطن. كأنه وطن سوانا. كأنه وطن الآخرين على أرضنا. كأن شعبنا صار مجموعة قطعان بلهاء تسير عميانياً وراء هذا أو ذاك، أو تَتصايح ببَّغاوياً لـ”تعييش” هذا أو ذاك من السياسيين.
انتماءات، انتماءات… لا إلى الوطن بل إلى الأشخاص. إلى الأصنام. إلى أولياء العشيرة والمزرعة والقبيلة. هذا لهاهنا وذاك لهاهناك. هذا للغرب وذاك للشرق. ويصرخ البطريرك صفير في ذعر هائل كتفجُّع أنبياء التوراة: “كفانا تبعيّة. لا شرق ولا غرب”. صرَخَها على عتبة بكركي التي يدَّعي الجميع أنهم يحتكمون إليها. ولكن… تأخَّروا. تأخروا جميعهم في الاحتكام. وربما هي أيضاً تأخَّرت في إطلاق صرخة الذعر الهائلة كالسوط التاريخي. وربما القمة الإسلامية (ولو انها صرختها مؤخراً من دار الطائفة الدرزية في وقفة ضمير حكيمة) تأخَّرت هي أيضاً في إطلاقها. وطن العائلات الروحية نحن؟ وطن الثماني عشرة طائفة نحن؟ عال. وما دام الأمر كذلك، فليكن لرؤساء الطوائف كلمتهم الحادّة طالما السياسيون يحتكمون إليهم في ساعة الصفر.
وهذه هي اليوم ساعة الصفر. فأين السوط ينهال على تجار هيكل كان للصلاة وحوار الثقافات والأديان وبات مغاور للّصوص وتجار الشعوب وتجار الموت وسماسرة الدول على أرض لبنان؟
وحده كرباج الحقيقة يُنقذ شعبنا اليوم من هذه الهاوية الفاجعية التي أوصلنا إليها عناد سياسي متبادَل جعل شعبنا قطعاناً تسير إلى الذبح وهي تصرخ بكل جهل: “بالروح، بالدم، نفديك يا…” بينما الذي يسيل ليس إلاّ دم الوطن حتى النّزف الأخير.