السبت 25 تشرين الثاني 2006
-474-
ما الذي يُمكن أن يقال – بل ماذا “يجب” أن يقال – في هذه الأيام الصَّعبة، المأساوية الصَّعبة، المصيرية الصَّعبة؟
وسط هذا التلاطم المجنون الهائل الفاجع من التيارات السياسية التي تلُفُّ الوطن، كلَّ الوطن، شعباً وأرضاً ومصيراً، في هذا النوِّ المرعب المخيف الذي أمواجُه أعتى من جبالنا، وجنونُه أسرع من حكمائنا، وليلُه الأسود أطولُ من آمالنا… ماذا يقال؟
هذه “التيتانيك” اللبنانية التي تكاد تصطدم بجبل الجليد السياسي، وتكاد تنصدع إلى نصفَين هائلَين مهدَّدَين كلَيهما بالغرق معاً في اللجة الواحدة جارفَين معهما كلَّ مَن عليهما وما عليهما، هل يُهيِّئ ربابنتُها الملاَّحون قوارب النجاة لهم ولأزلامهم كي ينجوا من الغرق ويتركوا الشعب يغرق؟ أم يتداركون اصطدامها بِجبل الجليد ويُحيّدونها عن الاصطدام فالغرق؟
هذا الولد الذي يتجاذبه كلُّ فريق من جهة – وكلُّ فريق يدّعي أنه ابنه وحده، وأنَّ له وحده الحقَّ في التصرُّف به وقيادته إلى حيث يرتإي – من يُنقِذُه، هذا الولدُ الضائع بين أوليائه، من براثن تَجاذُبٍ يكاد يُقَطِّع أوصاله إِرَباً بين متجاذبيه؟
هذه الهوية اللبنانية التي باتت عرضةً للسماسرة من كل فئةٍ ونوعٍ وانتماء، يقدِّمونها هبةً إلى هنا، وفاتورةً إلى هناك، والتزاماً انتمائياً إلى هنالك، ويتباهون بهذا الانتماء ولا يخجلون بتلك الفاتورة، ولا يرتدعون عن تلك الهبة، ألا يعرف حاملوها المتبرِّعون بها إلى هنا وهناك وهنالك، أنهم (مهما نادوا بـ”الوحدة الوطنية”) سيصبحون بلا هوية، وعندها لن ترضى بهم (ولن تُعطى لهم) أيةُ هوية أخرى، فيصبحون لُقَطاء على رصيف الهويات الضائعة أو المشرَّدة أو الموضوعة “هويات تحت الدرس”؟
جاء وقتٌ كان الحديثُ فيه (أو الكتابة أو الكلام) عن “لبنان اللبناني” نوعاً من الشوفينية أو التعصُّب أو التقوقع أو الانعزال أو الفئوية أو “جَزْرَنَة” لبنان (جعله جزيرة معزولة عن محيطه)، وكانت “الموضة” هي الانفلاش إلى المحيط القريب والوسيط والبعيد، تباهياً بانتماء لبنان إلى محيطه لا جغرافياً ولا اقتصادياً ولا تاريخياً وحسب، بل ممارسةً سياسيةً تتخلَّى عن أولوية لبنان لتجعل لبنان ساحةً لسواه، أو رأس حربة لسواه، أو صدىً لصوتِ سواه، أو شارعاً لسواه الممنوع من الشارع، أو باباً مفتوحاً للسوى الذي دخَلَه واستحلَّه واستباحَه وعَبَثَ فيه وشرّد أهل البيت وصدَمَ أهل البيت بعضهم ببعض، وعندما تصدَّع الصرح، وكاد يهوي على ما فيه ومن فيه، صرخ أهلُ البيت جميعاً: “لا. لا خلاصَ لنا إلاّ لبنان. لبنان أوّلاً. لبنان أولاً وأخيراً. أُخرجوا جميعاً أيها الأغراب ونحن نتدبَّر أمرنا”. وطرحوا الصوت على الدول فجاءت الدول بأَساطيلها وقناصلها وسفرائها ومندوبيها كي تُنقذ أبناء الوطن الذين صَحَوا – أخيراً!!!- على أهمية أنْ وحدَه وحدَه وحدَه الخلاص: لبنان اللبناني.
وليس في هذه الصحوة انتقاصٌ من أية علاقة جغرافية (لبنان ليس جزيرة معزولة بل منارةٌ مشعّة على محيطها)، وليس فيها انفصالٌ عن أية علاقة تاريخية (لبنان جزء نابض فاعل مؤثّر في تاريخ هذه المنطقة)، وليس فيها انعزالٌ عن أيّ التزامٍ مع جيرانه القريبين والبعيدين، بل فيها حضورهُ وهو حاملٌ هويته – هوية لبنان اللبناني أوّلاً – ومُجاهِرٌ بها من دون عقدة مواجهته أيةَ تهمة، لأن كلَّ دولة يتعامل معها تَحترمه أكثر حين يأتيها بِهويته هو، لا مستنداً (ولا منتمياً ولا مرتهِناً) إلى هويات الآخرين.
كندا في أميركا الشمالية، فهل يرضى الكنَدي بأن يقال له إنه أميركي لا كنَدي؟ والسنغال في أفريقيا، فهل يرضى السنغالي بأن ينادى: “أنت أفريقي لا سنغالي”؟ وألمانيا في قلب أوروبا، فهل يرضى الألماني بأن يسمّى الأوروبي لا الألماني؟
هكذا نحن: هويتنا هي لبنان اللبناني، المحترِم محيطه وجغرافياه وتاريخه، إنما بدون أية صفةٍ ملصَقةٍ به غير لبنانيته، حتى يجيء يوم تصبح فيه هذه الصفة (لبنانيته) من بديهي القول، فلا نعود مضطرّين إلى التشديد عليها، بل تصبح صفة طبيعية لا لُبْسَ فيها، ولا ضرورةَ شرح أو تنويه أو إثبات، لأننا نكون – بلبنانيّتنا – أنقذْنا “التيتانيك” اللبنانية نهائياً من الغرق المحتوم.