السبت 18 تشرين الثاني 2006
-473-
أقبحُ ما يتابعه المواطن اللبناني هذه الأيام: لهجة “الشارع” و”الشارع” المقابل، وتَباهي السياسيين بمن يسبق للنّزول إلى الشارع، وتسابُقُهم على من يستطيع زيادة العدد أكثر من غيره في قطعان أزلامهم النازلين إلى الشارع. وأسوأُ ما ينتاب المواطن اللبناني، وسط هذا القرف السياسي، شعورُهُ بأن السياسيين في أبراج (غير عاجية طبعاً) عالية عن أوجاع الشعب ومصائب الشعب، يتشاتمون من أعلى البرج إلى أعلى البرج الآخَر (برج إعلامي، أو صحافي، أو منبري)، ويصعِّدون لهجتهم من تصريح إلى تصريح، ومن موقف إلى موقف، وينشرون غسيلهم على جميع الحبال الدبلوماسية (يا خجلَنا من السفراء الأجانب وحكّام العالم الذين يتابعون أخبارنا من سفرائهم عندنا) أو على الحبال الإعلامية الفضائية (ويا خجلنا من المشاهدين في العالم ويا خجلنا أكثر من أبنائنا ومواطنينا اللبنانيين في عالم الانتشار)، ولا حساب لمعظم السياسيين إلاّ تقويم كلمتهم وتنفيذ تهديداتهم وتحقيق وعودهم من دون أيّ حساب للشعب الذي يئنُّ من هلع وخوف وجوع، ويشمئزُّ من قرف ولعنة وغضب.
النّزول إلى الشارع؟ قد يكون وقد لا يكون. إذا لم يكن، نكون اجتزنا “القطوع” المخيف الخطر القاتل، وإذا حصل، سيكون قطعانياً بالانتصار لهذا أو ذاك من السياسيين، وتلبية لأوامر هذا أو ذاك، وللتهييص والسير وراء هذا أو ذاك، ولانفلات الغرائز الطائفية والمذهبية والسياسية والاستسلامية والاستزلامية باليافطات وبالـ”الروح بالدم” والشعارات ملء الشوارع.
غير أن شارعاً آخَر يتهيَّأ (بل يجب أن يتهيَّأ) لا فئوياً أو جزئياً ولا قطعانياً ولا عشائرياً ولا قبائلياً ولا مزرعجياً لتلبية أحد من “بيت بو سياسة” بل إجماعياً وجَماعياً و”جُموعياً” لتلبية مطالب اقتصادية دقَّ حولها رؤساءُ هيئاتها لا ناقوس الخطر بل صاعقة الخطر مما تجنح إليه البلاد اقتصادياً صوب هاوية سحيقة قاتلة لا قيام بعدها لأحد في البلاد ولا حتى لكلّ البلاد.
إنها صرخة ذعر وخوف وهلع وهول واستغاثة وفجيعة وتهديد أطلقها رؤساء الهيئات الاقتصادية، وبالإجماع، ومن كل منطقة من لبنان، ومن كل جمعية ومؤسسة وهيئة اقتصادية في كل لبنان: جمعية التجار في بيروت والمناطق، جمعية المصارف، الهيئات الزراعية، اتحاد العمال، جمعية الصناعيين، غرف التجارة والزراعة والصناعة في بيروت وزحلة وصيدا وطرابلس، الندوة الاقتصادية اللبنانية، تجمُّع رجال الأعمال، غرفة التجارة الدولية، نقابة أصحاب الفنادق، نقابة أصحاب المرافق السياحية، نقابة المقاولين وغيرهم وغيرهم… يعني؟ يعني العمال وأرباب العمل معاً. فمن يبقى في البلد ولم يصرخ بعد؟
مع هذا، مع كلّ هذا، يجد بعض السياسيين وقتاً لشخصانيّتهم وكيديَّتهم، ووجهاً يطلون به على الناس لعرقلة هنا، أو فتوى سياسيةٍ هناك، أو مكسبٍ شعبي هنالك، وعندهم كل الوقت ليلهثوا وراء وسائل الإعلام ويُجْروا حواراتٍ حول طاولة اجتماع، وتصاريحَ بعد طاولة اجتماع، وأحاديثَ في برامج الـ”توك شو” السياسية، إذاعيةً أو تلفزيونية، فيما مؤشّر البورصة يصرخ أن الأسهم في بورصة بيروت تهبط، وترتفع الفائدة بين المصارف، وفيما تصرخ جميع الدلائل للإشارة إلى ازدياد نسبة البطالة ونسبة الهجرة ونسبة الفقر ونسبة اللعنة والقرف والغضب في صفوف الناس الواعين بأن سياسييهم هم سبب هجرة لقمة الخبز وتهجير أولادنا وتهاجر البورصة وهجران الليرة اللبنانية، وسبب صيرورة لبنان على خط الزلازل وعلى هاوية السقوط.
إذا كان من نزول إلى الشارع، فليكن تلبيةً لفجيعة هيئات اقتصادية هي التي تمثّل الشعب اللبناني كلّه بدون موالاة ولا معارضة، وهي التي ستقتحم “الباستيل” اللبناني فتقلب الطاولة على من لديهم الوقتُ بعدُ لاجتماع بحث وحوار وتشاور، وهي التي وحدها (إذا تحرّكت) ستؤرّخ للبنان زمانَ الغضب والتغيُّر.