السبت 7 تشرين الأول 2006
-467-
سفير دولة كبرى في لبنان، إلى مائدته الوداعية، كانت له مداخلة متبسِّطة موسّعة ختمَها بالغصة الوجدانية والعاطفية التي يشعر بها وهو يغادر للبنان بعد خدمته فيه سفير بلاده السنوات الأخيرة. ولم أشأْ أن أُحرجه أمام جمهرة الحاضرين، فلحظةَ صدفَت أنني إلى جانبه ببعض منأى عن مسمع الحضور حولنا، أكبرتُ فيه حبَّه لبنان (ظاهرةٌ غير جديدة لدى عدد غير قليل من سفراء يخدمون في لبنان) وسألتُه إن كان يغادر وهو يلحَظ ما لم يكن مرتاحاً له عندنا، فكان “دبلوماسياً” جداً في جوابه: “لا. أبداً. لم أنزعج أبداً من سلبيات”، فحاولتُ الضغط أكثر: “أبداً؟ معقول”؟ فأصرَّ على الـ”أبداً” ثم أردف بصوتٍ “دبلوماسي” كذلك أنه كان يفضل لو ان وضع السير عندنا أفضل، وكذلك وضع البيئة والتلوُّث بشكل عام.
ومن يعرف قواعد الدبلوماسية يفهم أن ليس من “نعم نعم” و”لا…لا” في القاموس “اللبق”، وأنّ على السامع أن يترجم “تهذيب” السفير أو “تلميحاته” بأوسع منها أو أقلّ، وفق ما يكون عبَّر عنه بتهذيبه الجم وقاموسه الدبلوماسي الدقيق.
ولم يكن السفير في حاجة إلى هذا “المنخل” في تعابيره، فظاهرةُ السير عندنا إحدى أشرس الآفات التي يتذمَّر منها المواطنون جميعاً في المناطق جميعاً، وظاهرة الزبائل المنتشرة هنا وهناك وهنالك على نواصي الشوارع وحفافي الطرقات والباحات يتذمَّر منها المواطنون يومياً في الصحف وعلى أثير الإذاعات.
ولكن، إذا كان السفير عبّر عن ذلك بتهذيب، فكم من السيَّاح والزوار والمواطنين اللبنانيين أنفسهم يعبّرون عن ذلك بقاموس غير مهذَّب وغير لطيف، والظاهرتان تتفاقمان من سيّئ إلى أسوأ، ونتائجها الكارثية تزداد كارثيَّةً ولا مَن يعالج.
لا من يعالج؟ قد يَحلنشش البعض تنظيرياً: “وَلَو؟ السير والبيئة؟ مش وقتها هلَّق. البلد يمر في مرحلة مصيرية”. شو يعني “مش وقتها هلّق”؟ وهل حوادث السير اليومية تنتظر انقشاع الوضع السياسي والأمني كي تحصد أهالينا؟ وهل أمراض التلوُّث والنفايات تنتظر انتهاء معظم “بيت بو سياسة” من تنظيراتهم وتصاريحهم وتشاتمهم في وسائل الإعلام، كي تبُثَّ سمومها البيئية في رئات المواطنين وصحة المواطنين وأذى المواطنين؟
شو يعني “مش وقتها هلّق”؟ وشو يعني أن ينشغل الوزراء والنواب والمسؤولون السياسيون والمدراء العامون بالوضع السياسي والأمني والاصطفافي و”المهرجاني” في البلد، بانتظار “ما سوف يحصل”، تاركين شؤون المواطنين وهموم المواطنين ومطالب المواطنين، والمواطنين جميعاً بدون سقف حماية ولا مرجعية لوجستية أو اجتماعية أو مدنية؟
شو يعني أن نجد كلَّ وزير، أيَّ وزير، كلَّ نائب، أيَّ نائب، لا انشغال لديه إلا الظهور في “توك شو” ليمارس التنظير السياسي الذي بات (حقاً بات، فعلاً بات، والله العظيم بات) ممجوجاً من كل الناس شكلاً ومضموناً وهيئةً ومرجعية سياسية.
شو يعني أن يترك معظم هؤلاء الـ”بيت بو سياسة” شؤون المواطنين الحياتية فلا يتابعونها ولا يعالجونها ولا يحلّون مشاكلها، كل ذلك بحجة “مش وقتها هلّق”؟
في جميع بلدان العالم مشاكل سياسية وأمنية وحالات استثنائية طارئة وكارثية وداهمة، ولكنَّ في بلدان العالم مسؤولين يقومون بواجباتهم تجاه مواطنيهم غير متحجِّجين بـ”الوضع السياسي الراهن” ولا متهافتين على الظهور في برامج الـ”توك شو”.
ولا بُدّ أن أصحاب السعادة السفراء المنتهية ولاية خدمتهم في لبنان (وهُم كثيرون في هذه المرحلة) يغادرون لبنان بالغصة الوجدانية والعاطفية نفسها، ولكن لا بدّ أيضاً أنّ لكل واحد منهم ملاحظةً “دبلوماسية” مهذّبة إن لم يقلْها لأحد هنا قبل أن يغادر، فسوف يقولها للـ”هناك” حين يعود، ولا نملك، ونحن نودّع كل واحد منهم، إلاّ أن نشكر خدماته عندنا، مرْدفين بكل تهذيب غير دبلوماسي”: “لا تؤاخذنا يا سعادة السفير”.