30 أيلول 2006
-466-
أفرحَنا كثيراً أن نسمع من الرئيس فؤاد السنيورة في خطاباته الدولية (مؤخراً في ستراسبورغ) أنْ “بعد اليوم لن يكون لبنان ساحةً بل وطناً”، كما أفرحَنا بالقدْر نفسه أن نسمع الرئيس نبيه برّي (في أكثر من مناسبة) يردّد أنْ “بعد اليوم لن تكون في لبنان سلطة بل دولة”.
عال. عظيم. ممتاز. براﭬو. نريد أن نصدّق. نريد أن نكون طوباويين ونصدّق. وكم كنا طوباويين، في السابق، عشرات المرات في السابق، وسمعنا وصدّقنا، كما سمع آباؤُنا وصدّقوا. منذ 1943 وهم يصدّقون، ونحن بعدهم اليوم نسمع ونصدّق.
أتكون هذه المرة نهائية السمع وناجزة التصديق؟ يعني: أنصدّق أننا سننتقل من الوطن الساحة إلى الوطن الدولة؟
أنعيشُ لنشهدَ أنّ اللبنانيين توقَّفوا عن “إهداء” (أو “تضييف”) وطنهم ساحة للضيوف الجيران والإخوان والأصدقاء والإيديولوجيين من كل صقع وتيار وحزب وعقيدة، فيَبطُل أن يكون لبنان “مطبخ” الأحزاب العربية والغربية، وتبطل أن تكون شوارعه ميداناً للمظاهرات انتصاراً لقضية عربية أو غربية، أو فضاؤُها (فضاء الشوارع) مدى مفتوحاً لليافطات والشعارات الاستفزازية أو الانتصارية لهذا البلد أو ذاك، لهذا الزعيم العربي أو ذاك، لهذا الشعب العربي أو ذاك، وكل ذلك على حساب استقرار لبنان، واقتصاد لبنان، وأمن لبنان، وأمان لبنان، وصورة لبنان/الساحة في العالم، الساحة التي تفتح أبوابها لكل طارئ أو دخيل ممنوع عليه التظاهر في بلاده أو التحزُّب في بلاده أو إبداء رأيه في بلاده فيأتي إلى لبنان/الساحة كي ينفّذ مآربه السياسية؟
أنعيشُ لنشهدَ أنّ اللبنانيين توقَّفوا عن الانسياق أو الانجراف وراء هذا الحزب غير اللبناني أو تلك الإيديولوجيا غير اللبنانية أو هذا الزعيم غير اللبناني أو ذلك القائد غير اللبناني أو ذيالك التيار غير اللبناني؟
أنعيشُ لنشهدَ أنّ اللبنانيين وعَوا وفهموا واقتنعوا وآمنوا أن يكون ولاؤُهم للبنان اللبنانيّ أولاً وأخيراً وبين بين، وأن يكون وفاؤُهم للبنان أولاً وأخيراً وبين بين، من دون أن ينعزلوا عن محيطهم، أو يتقوقعوا دون محيطهم، أو ينفصلوا عن العالم؟
أنعيشُ لنشهدَ أنّ اللبنانيين لَمَسوا لَمْسَ اليقين بأنّ لبنان ليس مساحة جغرافية ضئيلة بل “مساحة روحية” (التعبير لفؤاد حداد “أبو الحن”) ولا يقاس بكيلومتراته المربّعة بل بإشعاعاته المسبّعة الاتجاهات إلى أقاصي الدنيا، ولا يقاس بديموغرافياه الضئيلة (4 ملايين على أرضه) بل بتكوين ديموغرافياه من عائلات روحية يحسدنا على نسيجها العالم ويحاول تدميرها المغرضون الحاقدون؟
أنعيشُ لنشهدَ أنّ اللبنانيين اقتنعوا نهائياً بأنّ لبنان هو القيمة لا المساحة، والجودة لا الكثرة، والنوعية لا الكمية، وأن يكون شعارُهم الواحد الموحّد الوحيد “لبنان أو لا أحد”، عوض أن يصيحوا ببغاويّين وراء هذا الزعيم أو ذاك القائد أو ذلك السياسي “أنتَ أو لا أحد”، وعندئذٍ ينتقل ولاؤُهم للوطن لا لأي واحد من “بيت بو سياسة” الذين يمارسون (خصوصاً في هذه الأيام) عملية غسل دماغ رهيبة على مَحاسيبهم وأنصارهم وأزلامهم وأتباعهم و”أغنامهم” فيقودونهم من هذه الساحة إلى تلك الباحة، ومن هذا المهرجان إلى ذاك الاحتفال، ما سوى ليمارسوا عليهم خطابات الشحن وإثارة المشاعر والغرائز السياسية؟
أنعيشُ لنشهدَ أنّ اللبنانيين بدأوا يرفضون تهييصات البيارق والأعلام والصوَر والشعارات واليافطات فوق الشوارع وعلى الحيطان، وأخذوا يخلعون من أقدامهم نعال التبعية لهذا او ذاك، وينْزعون من رؤوسهم شعور الاستسلام والاستزلام، ومن تفكيرهم أنهم حبوب في سبحات أسيادهم أو أعداد في قبيلة هذا القائد أو مزرعة هذا الزعيم أو عشيرة هذا السياسي؟
“لبنان وطن لا ساحة” (يقول الرئيس السنيورة)؟ و”لبنان دولة لا سلطة” (يقول الرئيس برّي)”؟ عال. عظيم. نريد أن نكون طوباويين ونصدّق. فليبدأ هذا اللبنان من كل هذا الأعلاه ومن سواه في السياق نفسه، كي يتحرَّر اللبناني من الولاء لشخص في لبنان أو لدولة غير لبنان، أياً يكن هذا الشخص وأياً تكن تلك الدولة.