468: الدخول في الدولة والخروج من المزرعة

السبت 14 تشرين الأول 2006
-468-
هل يكفي ما نسمعه هذه الأيام (ولو صَدَقَت النوايا) عن إجماع “بيت بو سياسة” على بناء الدولة القوية المنيعة لمستقبلنا؟
وهل نكتفي من كلامهم بمساعي التهدئة لوقف هذا الإِسهال التشاتُمي والتخويني، وهذا التباري الـمُقرف في ما بينهم، والمزايدات في التسابق إلى المنابر كي يقفوا يتصايحون من وراء متاريسهم الإعلامية و”الساحاتية” و”المهرجانية”؟
وهل هؤلاء المتشاتمون المتصايحون، الممجوجون من الناس، هم الذين سيبنون للناس الدولة الموعودة؟
وأين كانوا، من قبل، لم يبنوها هذه الدولة، بل توارثوها عائلياً أو حزبياً أو طائفياً، و”مزرعوها” على قياساتهم الانتخابية أو القبائلية أو العشائرية أو الطائفية أو المحسوباتية أو المنفعاتية أو الأزلامية أو “الفواتيرية”؟
أيمكنهم، وهم بهذه الصفات، أن ينقلوا لبنان الوطن من المزرعة إلى الدولة؟ من الولاء لهم (للأشخاص) إلى الولاء للدولة (للوطن) ويكتفوا – طوباوياً وكاريتاسياً – بالانسحاب من الساحة وإخلائها لذوي الكفاءة والموهبة والإدارة الحيادية الصلبة؟
بناء الدولة لن يكون بمعظم بهؤلاء الأعضاء في نادي السياسة اللبنانية، المسؤولين منذ عقود عن خراب هذه الدولة.
الدولة التي لا تزال اليوم (سنة 2006) تعيش على إحصاءات قيد النفوس لسنة 1932 وليس فيها إحصاء جديد، يعني دولة لا تعرف من يولد فيها ومن يموت ومن يهاجر ومن يتجنّس ومن فيها قيد الدرس ومن يخرج منها ومن يدخل ومتى يعود من خرج وكيف دخل من دخل، وأين ذهب من خرج ومتى عاد وكيف، كأننا قبائل بدو رُحَّل تائهين من دون إحصاء.
الدولة التي ظل سياسيوها سنواتٍ طويلة يرفضون (بل يعيقون) ذهاب الجيش إلى الجنوب وينفّذون أوامر يوضاسييهم في الداخل والخارج بمنع انتشار جيش لبنان على آخر شبر من تراب لبنان ليبلغ نفوذه كل الوطن ويحمي كل مواطن في كل شبر من أرض لبنان، فلا تعود فيها استثناءات ولا جُزر أمنية ولا مربّعات ولا مستطيلات ولا بؤر مخابرات ولا مقاولو اغتيالات.
الدولة التي “مزرعوها” فدمَجوا فيها السلطتين التشريعية والتنفيذية (معقول؟!؟) فإذا العضو في الأُولى (أي النائب) ووظيفته أن يراقب العضو في الأخرى (أي الوزير) المفروض أنه ينفّذ تشريعات السلطة التشريعية، يصبح عندنا الأخ نائباً ووزيراً معاً، فكيف يكون مشرِّعاً ومسؤولاً عن مراقبة التنفيذ حين هو نفسه سنّ التشريع ومراقبة التنفيذ، بينما الأصول أنه منتخَب من الشعب كي يراقب باسم الشعب (في مجلس النواب) تنفيذ المكلّفين (في مجلس الوزراء) الخاضعين (في الحكومة) لمساءلة المشرِّع.
الدولة التي، منذ عقود، عصا عليها ترقيم الشوارع والبيوت والمنازل والشقق أسوةً بالدول السوية في العالم.
الدولة التي، منذ سنوات، تفشل في تزفيت طرقات للبلد صارت جلالي بطاطا ذات وعورة قاتلة كمجاهل الأدغال.
الدولة العاجزة عن ضبط السير وردع مواطنين وقحين يزدادون وقاحة بسبب غياب هيبة الدولة على الطرقات.
الدولة التي أحزابها تدّعي العلمانية والديمقراطية وهي في الواقع تشكيلات مركَّبة طائفية إقطاعية مذهبية بقناع العلمنة.
الدولة التي تسوسها قيادات وزعامات تقليدية وارثة موروثة توريثية لا تزال تتناسل منذ عشرات السنين لتحرم الدولة من أن تكون سلطة مركزية واحدة فتتشلّع سلطات موزعة على المراوح الطائفية والديمغرافية و”النفوذية” الإقطاعية المناطقية.
هذه هي الدولة الحالية التي، منذ عقود، أوصلَنا إليها الذين يتشدّقون اليوم باندفاعهم (؟!) إلى بناء دولة قوية منيعة قادرة.
جاء في مذكرات الجنرال ديغول: “أستغرب أن يتولّى بعض السياسيين الحديث عن سياسة بلادهم بينما هم لا يعرفون، في العمق والدقة والتفصيل والاعتبار، محطات بارزةً من تاريخ بلادهم”.
الذي من السياسيين اللبنانيين يرى أن مقولة شارل ديغول لا تنطبق عليه، فليرفع إصبعه.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*