السبت 12 آب 2006
-459-
أكان ضرورياً كلُّ هذا الدمار، كلُّ هذا الهول، كلُّ هذا الخراب، كلُّ هذا الويل، كلُّ هذا الجحيم المرعب كي يعي الجميع، يَفهمَ الجميع، يُدركَ الجميع، يُجمعَ الجميع، و… يُقرّرَ الجميع ضرورة التماسُك الداخلي، والالتفاف حول الدولة، وتحويل جميع القوى السياسية الداخلية إلى قوة واحدة هي قوة الدولة التي وحدها اليوم تتعاطى معها الشرعية الدولية، إذاً فلا بُدّ من إعطاء الشرعية الدولية مُحاوراً قوياً “واحداً موحداً قوياً” هو الدولة اللبنانية؟
أكان ضرورياً أن يتدمّر لبنان بهذا الشكل شبه الكامل، كي نشعر جميعاً بضرورة العمل موحَّدين على “بناء” دولة لم يعرف (أو لم يشأ أو لم يكن من مصلحته الشخصية) أن يبنيها طقمٌ سياسيّ حَكَمَ لبنان منذ 1920 و1926 و1943 و1975؟
أكان ضرورياً كلُّ هذا الخراب في الحجر والبشر؟ طبعاً لا. أمّا وأنه حصل ورجعنا إلى الصفر، فلنبدأ من هذا الصفر كي “نبني” ولا “نرمم”، كي “نؤسس” ولا “نرقّع”، كي ننشئ لأبنائنا دولة واحدة موحَّدة قوية ذات قرار مركزي واحد موحد.
وهذا الخراب الحاصل؟ فلنعتبر أنّ ما تدمّر ليست بيوتنا وجسورنا وبُنْيتنا التحتية بل آخر بقايا المزارع والعشائر والقبائل والفوضى و”المعليشيات” والاصطفافات والانتماءات الشخصية والديماغوجيات الحزبية الإيديولوجية المستعارة التي كانت قائمة هنا وهناك وهنالك، وعندها لا أسفاً على خرابها طالَما على أنقاضها سَـ”نبني” و”نؤسس” دولة لبنان الجديد.
عُدنا إذاً إلى البداية؟ معليش. فليكن أننا في البداية. ولتكن بدايتُنا هي الأُضحية التي لا بُدّ منها لدفن لبنان الأمس وهو كان لبنان أشخاص وزعامات عوض لبنان دولة تظلّل الجميع فيصبح الأشخاص خُدّامها (لا الشعب خدام الأشخاص) وتصبح الزعامات في خدمتها (لا الشعب في خدمة الزعامات والبكوات وأصحاب السيادة والسعادة والمعالي وسائر الألقاب العثمانية).
ولكي لا يكون شهداؤنا سقطوا بلا ثمن، وفيهم أغلى أطفالنا وأبهى شبابنا وأعزّ زملائنا وأطيب رجالنا وأجمل أمهاتنا وأقوى مقاومينا، فلننهضْ من هذا “الأبوكاليبس” الرهيب ولْنضع جميع إمكاناتنا المواطنية والسياسية والعسكرية أساساً واحداً متيناً تقوم عليه دولة لبنان القوية الواحدة الموحَّدة المركزية القرار. وبقدْر هذين التكاتف والتعاون فلنتكاتفْ ونتعاونْ على دفن ملامح لبنان الماضي الذي لم يكن فيه منطق دولة بل “مناطق” سلطة موزعة على جسد الوطن خارطةً سياسيةً وطائفية ومذهبية وانتمائية (داخلية وخارجية) ترسّخت أمراً واقعاً قام على “ستاتو كو” دام أكثر من نصف قرن بحجة أنْ “لم يكن مُمكناً أفضل مِما كان” بسبب “ظروف سياسية وأمنية” (؟!) فلم يعرف لبنان دولة ساهرة بل دولة سائبة، ولا دولة ضابطة الكل بل دولة مُحاصصات سياسية ومذهبية وطائفية ومناطقية، ولا دولة سيّدة بل دولة تابعة، ولا دولة حرّة بل دولة مستزلمة ومستسلمة، ولا دولة إنماء متوازن بل دولة “كوتا” زعاماتية، ولا دولة قرار مركزي واحد موحَّد قوي بل دولة تأخذ قرارتها بالتوافق والتراضي، ولم يعرف “دولة مواهب بل دولة مذاهب” (العبارة للسفير فؤاد الترك)، ولا عرف دولةَ حزم وحسم وعزم يكون فيها الولاء للدولة الأُم لا لأبوات الزعماء والأشخاص والسياسيين، دولةً لا دويلات فيها، دولةً يشعر فيها الشعب أنه شعب لا قطيع، دولة لا يهاجر منها أبناؤها بل يعودون إليها، دولة يخدم سياسيوها الشعب ولا يجعلون الناس حاشيةً عندهم وأزلاماً ومحاسيب.
وليست بعيدةً عنا أسسُ هذه الدولة التي نعاين ملامحها اليوم: داخلياً يثق بها الجميع ويلتفُّون حولها، وخارجياً يتفاوض معها المجتمع الدولي ويثق بقراراتها، ويتمحور الحوار معها على “النقاط السبع” التي وضعها فؤاد السنيورة في روما فباتت أركان مفاوضة. فلتكن هذه السبعُ “أعمدةَ لبنان السبعة” التي نبني عليها لِلبنانِنا الجديد مبادئَ دولة جديدة توافَرَ لها اليوم فؤاد السنيورة الذي يلتفُّ حوله الجميع بثقة كل الأفرقاء: مؤمنين بِحكمته ونضجه السياسي وإخلاصه الوطني، وخصوصاً بولائه اللبناني الكامل الذي يغتبط له كذلك غائبان كبيران: عبدالباسط السنيورة ورفيق الحريري.