458: الأعجوبة اللبنانية

السبت 5 آب 2006
-458-
غريبٌ هذا البلدُ الضئيلُ الحجم كيف يقفز فجأةً إلى صدارة الإعلام والصحافة في العالم حتى إذا ارتسمَت له خارطةٌ في موقعه بين مُحيطه، بدا أصغر من ولاية في بلاد شاسعة، وأصغر من مُحافظةٍ في بلاد واسعة، ومع ذلك يعاند، يقاوم، يتصلّب، تُحرقه نيران الحقد والبغض والحسد والأُخوّة والعداوة الحضارية التاريخية، ويبقى صامداً ينهار حَجَرُه ولا ينهار بَشَرُه.
فريدٌ هذا البلدُ الضئيلُ المساحة الذي كان في أساس نهضة القرن التاسع عشر على أرضه وفي ديار مصر والأميركتين حتى لَهو في الأدب الحديث أساس الأدب على أقلام أدبائه الذين ضاقت بهم أرضه فهاجروا واغتربوا وظلّ عنوانُهم وفاءهم له.
مذهلٌ هذا البلدُ الضئيلُ الديمغرافيا الذي يبلغ أهله وأبناؤه وأحفاده في الخارج أضعاف أضعاف أهله على أرضه، ولم ينتشروا إلى بقعةٍ أو دولةٍ أو بلادٍ على هذا الكوكب إلاّ حفروا فيها جديداً أو مبتكراً أو لافتاً وحوّلوا رصيد حضورهم إلى أرضهم الأم ووطنهم الأول الذي يعودون إليه بالحنين ويؤدُّون له الوفاء من دون تخليهم عن الولاء للبلاد التي احتضنتهم، هم الذين اختصرهم جبران في عبارته: “همُ السُّرج التي لا تطفئها العصور”.
عبقريٌّ هذا البلدُ الضئيلُ الجغرافيا الذي يكتنِز في هذه البقعة الضئيلة من الأرض شعاعاتٍ رائعة من جمال الطبيعة، سهولاً سائغة، وجبالاً ذات هيبةٍ وسحر، وودياناً شاعرة، ومناظر ومشاهد أبلغ من كل وصف، وسياحةً ذات فصول أربعة، ومناخاً يقصده الأقربون والأبعدون، وثلجاً وبحراً، وشمساً بَهيّة وقمراً بلورياً، وكلُّها في خارطة بحجم قبلة، لكن الأبلغ منها تاريخٌ نَما في هذه الجغرافيا الضئيلة، تاريخ بطولات وأمْجاد وحضارة وتراث وإرث عريق مَجيد ساطع في ذاكرة العالم، حتى قال فيه (عضو الأكاديمية الفرنسية وزير الخارجية الفرنسية والمؤرخ الباحث العالم) غبريال هانوتو: “إن لم يكن لبنان أعلى قمة في الجغرافيا، فهو – بدون شك ولا جدال – أعلى قمة في التاريخ”، وقال فيه العالم المؤرخ بول موران: “ذات يوم كانت صيدا وصور كل تاريخ العالم”، وعلى أرضه اجترح المسيح أعجوبته الأُولى في قانا التي صبّ عليها أبناء يهوه نيران حقدهم التاريخي.
هذا هو اللبنان الذي يشغل العالم اليوم بجغرافياه الضئيلة وديمغرافياه الضئيلة ومساحته الضئيلة، إنما بحضوره غير الضئيل في ضمير العالم حتى ليذهل العالم. فعلى مدى عشرين عاماً طحنته حرب الآخرين على أرضه، اندحر الآخرون وانتصر لبنان. وعلى مدى مشابه احتلّه عدو تاريخي في جنوبه، اندحر العدو وتحررت أرضه إلا بقعة ستحرر. وها هو اليوم يخوض حرباً شرسة مع هذا العدو نفسه الذي لم يتجاسر أحد في محيطه على قذفه بصاروخ طوال نصف قرن، فإذا بلبنان يقصفه إلى عمق أذهل العالم الذي كان يظنّ أن هذا الأمر الذي لم يحصل من أية بقعةٍ مُحيطة بالعدو لا يمكن أن يحصل من أية بقعة.
هذا هو اللبنان الذي كالمنارة، تماماً كالمنارة التي لا تأخذ من الأرض سوى مساحة ضئيلة، لكن نورها الذي يشعّ من قمتها يتجاوز المساحات والمسافات ليبلغ أعمق البحر وأبعد البر.
هذا هو لبنان الذي كاللؤلؤة، تماماً كاللؤلؤة التي ليست “كثيرة” لكنها مكتنِزة بالكثير من البدع الخلاّق، وهكذا أبناء لبنان، مقيموهم والمنتشرون في العالم، لالئ ناصعة رائعة مبدعة عبقرية لا تغيب عنها شمس ولا تنائيها مسافات عن أرضها الأم.
حتى اليوم كان سائداً تشبيهُ لبنان بـ”طائر الفينيق”. بعد الذي يجري، صار باهتاً هذا السائد. فلْنقلبْه ولنجعلْه مثالاً حياً يحتذيه العالم. بعد اليوم، للكلام على بلد ينهض من دماره إلى عماره، ومن رماده إلى عماده، فلتتوقَّف عبارة “طائر الفينيق” ولنستبدل بها عبارة “طائر اللبنان”، لأنه الطائر الذي يصوّب عليه نارَهم قراصنةُ الجو والبحر والبر، يرمونه ولا يَسقط، يُسقطونه ولا يصاب، يُصيبونه ولا يَموت، بل ينهض من دماره ورماده بَهياً كشمسه، ساطعاً كجباله، شامِخاً كأرزه الخالد.
وهنا سر الأُعجوبة اللبنانية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*