455: جبيل؟ تاريخنا أيضاً مقاومة

جبيل؟ تاريخنا أيضاً مقاومة
السبت 15 تموز 2006 -455-
بعضُ تاريخنا في لبنان ضوءٌ يقاوم الظلام، وبعضُهُ الآخر مقاومةٌ في اعتناقنا إياه ووعينا أهميتَه وتسليمَ شعلته لأولادنا.
هذا العام تحتفل منظمة الأونسكو ومنظَمات أكاديمية أخرى (في طليعتها “مشروع السلام العالمي”) ببلوغ جبيل 7000 سنة في التاريخ. وفي هذه المناسبة انتشرت في العالم، صحفاً ومجلات ومواقع إلكترونية، أضواء على جبيل، على بيبلوس، على “غِبِل” أو “جِبِل”، لا أَعرف كم بين شعبنا (في لبنان وعالم الانتشار اللبناني) مَن يعرف عظمة جُبَيلنا العظيمة.
وحدَها العناوين كافية، إن كان للدخول إليها وقت وتخصيص غوصٍ على مفاتن فيه وعظمات يعتز بها كل وطن.
فماذا وجبيل “أقدم مدينة مأهولة في التاريخ” (لا أريحا، معاصرتها التي مرّت في قرونٍ كانت خلالها مدمَّرة وغير مأهولة، بينما جبيل لم تكن يوماً، منذ 7000 سنة، خاليةً من أهلها). وهذا ما جعل إرنست رينان (في كتابه “بعثة فينيقيا”) يؤكد أن “جبيل أقدم مدينة في العالم، على مستوى الكرة الأرضية”. وهذا ما جعل جوليان هَكسلي (المدير العام لمنظمة الأونسكو ذات فترة) يقول إنّ “لمدينة جبيل أهمية فكرية تعادل أهميتها الجغرافية”.
وماذا أن تكون جبيل شهدَت بناء أول بيت بالحجارة المصقولة على سبعة أعمدة هي “أعمدة الحكمة”، كما شهدت بناء أول هيكل (نحو 2700 ق.م.)، وبناء أول سُور يحمي مدينة من غزو المهاجمين.
وماذا أن تكون جبيل هي العاصمة الفينيقية المقدّسة ذات المرجعية التي جعلت قدموس يأتي إليها من مدينته صُور حاملاً اختراعه العظيم: “الأبجدية الفينيقية” التي لم يكن يمكنه الإكمال بها إلى اليونان (نصحه كهنة جبيل بأن يقصدها لأنها ستكون منطلقاً لاختراعه إلى الغرب كله) من دون المرور بجبيل وأخْذ بركة كهنتها ومعابدها وهياكلها ذات الصلة، ليواصل إلى نشر الأبجدية التي، بحسب ويل ديورانت (الباحث الأميركي صاحب موسوعة “تاريخ الحضارة”-20 جزءاً)، هي “أعظم إبداع حضاري في تاريخ البشرية، وأغلى هدية قدمها الإنسان للإنسان”. وهو ما ظهر في جبيل على غطاء ناووس أحيرام، وهي ليست الأبجدية الأقدم لكنها أول أبجدية “ناطقة” لأنّ لكلّ حرف صوتاً ذا تعبير، وكانت الأبجديات السابقة صورية تعبّر بالصورة عن المعنى، فيما أبجدية قدموس تعبّر بالأحرف عن الصورة والمعنى معاً.
وماذا أن تكون جبيل هي التي من مرفإها انطلقت طلائع البحارة لبناء قواعد بحرية مهّدت أمام صُور سيطرة سلمية
على شواطئ المتوسط امتدت حتى أفريقيا الشمالية ومنها إلى أصقاع بلغت، مع الفينيقيين، شواطئ أميركا. وماذا أن غابات جبيل كانت المصدر الأول لأخشاب أولى السفن الكبرى على متن المتوسط.
وماذا أن تكون جبيل شهدت أول الاحتفالات الدينية في العالم: الأدونيات (لاستذكار مصرع أدونيس) وكانت فيها مشاهد الرقص والموسيقى والغناء وبدايات المشاهد المسرحية.
وماذا أن تكون جبيل، كما ذكر فيليب حتي (في كتابه “تاريخ سورية ولبنان وفلسطين”) موئل الإيمان بديانة التوحيد وبعقيدة الحياة بعد الموت (التي منها انطلقت المعتقدات المشابهة في أديان سماوية لاحقة).
وماذا أن تكون جبيل (على ما هي بيبلوس) أعطت اسمها للكتاب (بيبل، بيبليوغرافيا، الكتاب المقدّس، …) بالمعنى الذي يجعلها أُمّ الكتاب في التاريخ.
حقائق ولا أقوى، نتسلّح بها لنقاوم. وإذا كانت المقاومة تستند إلى سلاح، فليس أقوى من سلاح التاريخ يجعلنا أبناء مقاومة، لا تمحوها حرب ولا تكسرها قوة في التاريخ.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*