سعيد عقل: خمس وتسعون
السبت 8 تموز 2006 -454-
هذا الأسبوع، باشرَتْهُ الخمسُ والتسعون.
يا يَحفظُه الله أرزةً نَفيءُ إليها، نَبري على جذعها مناقيدَنا اللهفى إلى الجمال، ونَدْفأ في ظلِّها من برد الكرامات.
خمسٌ وتسعون، ولا يزال بيننا أكثرَنا صحواً وإشراقاً على لبنانات وطننا الذي تعلَّمناه على كتاباته وأفكاره.
خمسٌ وتسعون، ولا يزال مَحرور الكتابة اليومية: جديداً ذا نضارة إبداعٍ على دقّة قسوةٍ لا إلى تساهل، أو عطفاً على قديمٍ يعود إليه تعديلاً وتشذيباً واطِّلاباً لأجمل وأفعل وأمضى في صكّ الجمال.
خمسٌ وتسعون، ولا يزال يهنأُ إلى جائزة شهرية يعطيها في جامعة سيدة اللويزة لطلاب منها متفوقين، فرِحاً بهم، راضياً ببِشْر الغبطة أن يصافح يداً لهم قد تكون غداً (ومن يدري؟) خيراً للبنان وبركةً لعطاءاته.
خمسٌ وتسعون، وقبل أيام قليلة انتهى من كتابة قصيدة جديدة ذات 56 بيتاً هي من أقوى ما أنتج قلمه الصعب، وسيُلقيها قريباً في مناسبة منبرية كتبَها خصيصاً لها ولن تكون في المناسبة قصيدةٌ سواها، وهو مغْرِق، منذ أيام، في تغييب أبياتها وحفْظِها جميعاً كي يُلقيها غيباً كما متحدِّياً بذلك ذاكرته التي لم تَخُنْه يوماً، ولا يزال يُحَفّزها على الحفظ الدقيق.
خمسٌ وتسعون، وكلّما دخلتُ معه ستوديو تلفزيون لبنان في تلة الخيّاط لتسجيل حلقة جديدة من برنامج “سعيد عقل إن حكى” الذي أَستضيفُه فيه كل أسبوع، أَقلق على تركيزه فيفاجئني بما يسبق ظني: صفاءَ ذهن، ونصاعةَ ذاكرة، واستذكارَ أسماء وتواريخ وتفاصيل، وأفكاراً تُدهش في البدء من غرابة، ثم تُدهش في النهاية من عمق تفكير.
خمسٌ وتسعون، ولا يزال كلما جلسنا إليه يطالعنا بمشاريع ينويها للبنان، هيَّأَ لها تصميمها المالي وإطارها التفصيلي، وليست أبعدَها استعادتُه قريباً جائزتَه الأُسبوعية “الكلمة الملكة” في نقابة الصحافة ظهر كل أربعاء، مع بحثه الدائم عمّن يكون خدَم لبنان بكلمةٍ، بعبارةٍ، ببادرةٍ، بعملٍ، بنشاطٍ، بنتاجٍ إبداعيّ يضاف إلى حلمه عن لبنان حلماً بموهبةٍ واعدةٍ جديدة.
خمسٌ وتسعون… يا يحفظه الله، ولو راجف اليدين من قلقٍ على كتابةٍ لا تجيء أجمل.
مساء الثلثاء، من هذا الأسبوع، نهار عيده (4 تموز)، تحلَّقنا حوله نعنو على كلماته التي كان، ككاهن إغريقيّ، يطلقها تبشيراً أو حدساً أو تحذيراً، وجميعُها، لا منقوصة واحدة، عن لبنان الذي حين يستعرض مكتشفاته عنه يزداد احمرارُ جبينه زهواً، وتزدادُ نبرةُ صوته ثقةً، وينقلب ارتجافُ أصابعه إلى ارتعاش يدٍ ممدودة صوب مَجدٍ على أطراف الأصابع.
ليلتها، مغتبطاً كان من حلقة أصدقاء يتنافسون على حبه الأبوي. ويفاجئه مُريدٌ جديد (مارون ياغي) بأنْ جاء يُسمعه غيباً “عشتريم” (الفاجعة الشعرية التي يعتبرها هو “أجمل ما كتب”، وهي من ثلاثة فصول: أول في 10 لوحات، ثانٍ في 11 لوحة، وثالث في 20 لوحة، والقصيدة الختامية من 4 لوحات، ما مجموعه 3171 بيت شعر). وراح يصغي إلى راوي شعره غيباً، يصغي بفرحٍ كثير، على وجهِه شعاعُ غبطة، وعلى ثغره ابتسامةُ رضا، وهو يجول بعينيه علينا جميعاً، كعرّاف “دِلْف” المؤتَمَن على أسرار لبنان، لا يعطيها إلا مَن يستحقُّها من المؤمنين.
المؤتَمَن! لعلَّها الكلمةُ الأدقّ: فها هو منذ ثلاثة أرباع القرن يَحفر في الزمان بَحثاً عن كنوزٍ للبنان في التاريخ، يَحملها في شعره إلينا، وفي نثره، وفي مُحاضراته وخطَبِه وجوائزه، سنابلَ خيرٍ وبرَكةٍ وسْعَ بيدر لبنان الآتي الذي سيعيش طويلاً على الإرث الذي اكتشفه له هذا العرّاف التاريخي.
أَعطِنا، يا ربّ، أن نَحفظَ إرثَ سعيد عقل.