فلنكن ولو بعض ألمانيا
السبت 22 تموز 2006 -456-
الدمار الرهيب الذي يسحَق عندنا الجسور والعبور، البنايات والشاحنات، الساكنين والنازحين، أحياء الناس وأحياء البيوت، ويعمد إلى تهجير وطن كامل من وطنه، ومواطنين بالآلاف من قراهم ومدنهم ووطنهم، نقيسه، مع كل نسبة محفوظة، بما حدث لألمانيا في الحرب العالمية الثانية. وما شهدته ألْمانيا (وبرلين تَحديداً) في أربع سنوات، شهد بعضه لبنان (وجنوبي لبنان وبيروت تَحديداً) في أربعة أيام، مع حفظ نسبة الزمان والمساحة بين برلين وبيروت، بين ألمانيا ولبنان.
وإذا كانت ألمانيا نالت ما نالته من ذاك الدمار الرهيب، لأنها كانت ذات فكرة توسُّعية هتلرية جرمانية مَجنونة قضى عليها الحلفاء قبل أن “تَتَهَتْلَر” على الأرض، فلبنان ينال ما يناله من هذا الدمار الرهيب، لأنه البلد الْمُسالِم الحضاري الذي قاوم الاحتلال وطرده، كي يبقى على مسالَمته وحضاريَّته بلداً منارةً في هذا الشرق، وهو ما يسعى ألاّ يتحقّق فيه عدُوٌّ يتحجَّج بالحدث كي يسبِّب الكارثة، أو يَخترع الحدث كي يتحجَّج به.
الشاهد من هذه المقدمة: ألْمانيا. بعد أربع سنواتٍ من الرماد، عادت من الدمار إلى العَمار، لكن الأهمّ من كونها عمّرت العمار، أنها عمّرت… دولة. نعم: بنَت دولة قوية قائمةً على أسس الدولة لا على شرائع المزارع والقبائل والعشائر.
والشاهد من هذا الشاهد: صار عندنا ما صار، ووصلنا إلى ما بلغناه من دمار وكوارث وتهجير ونزوح. فهل نحن مهيَّأُون للاتعاظ؟ وما المؤشِّر؟ بعد سبع عشرة سنةً من حرب طاحنة مدمرة وتدميرية ودمارية، عاد أمراء الحرب إلى كراسي الحكم فحكموا بمنطق العشيرة والقبيلة والمزرعة، وقيل يومها إن الأفضل أن يجتمعوا داخل الحكم من أن يختلفوا خارج الحكم، ولم يفهم العالم يومها كيف أنّ الذين سبَّبوا هذه الحرب (البعض يسميها “أهلية”، والبعض الآخر “آخرينية”، والمهم أنها دمّرت لبنان) عادوا فاجتمعوا تحت قبّة الحكم وما زالوا يحكمون كما كانوا في الحرب زعماء شوارع وأحياء ومحاسيب وأزلام.
يعني؟ يعني أنهم عادوا فاجتمعوا زعماء قبائل وعشائر ومزارع لا أسياد قرارٍ يريدون أن يبنوا دولة. وظلوا يتناتشون الدولة ويتناهشونها ويُضعفونها لِمصالحهم السياسية والانتخابية والشخصية والمحاسيبية والأزلامية، حتى هاجمهم الوحش وكانوا متلهّين بتناهُش حيطان الدولة فاستوطى الوحش حيط الدولة وهاجَمنا متأكداً من أننا لم نبنِ دولةً قويةً بل أكواخ زعماء لم يتفقوا على بناء دولة فبنوا أكواخاً من القشّ السياسيّ متضادَّة متخاصمة متنافرة متعاكسة متنافرة، تهوي جميعاً عند أول هبّة ريح، وتحترق جميعاً عند أول شرارة نار.
أما لماذا لا يفعل العدو نفسُه الواقعة نفسَها مع دول الجوار، فلأن في كل واحدة من دول الجوار دولةً متماسكةً قويةً ذاتَ قرار واحد للحرب والسلم، وذات صلات مع دول قرار كُبرى يعرف هذا العدو أنها تهبُّ لنصرة الدولة المعتدى عليها.
بلى: لم تنهض ألْمانيا من الدمار إلى عمار الحجر وحسب، بل إلى عمار الدولة الواحدة الموحّدة القوية المتماسكة ذات القرار الواحد الموحَّد، وباتت اليوم إحدى دول القرار الكبرى. فلنتعلّم نحن، ولنكن بعض ألْمانيا، ولننهضْ من هذا الدمار الرهيب الذي أصابنا من عدوّ رهيب، والذي لا بُدّ نعيده عماراً قوياً لن يكون قوياً إذا لم نكن نحن أقوياء في إرادة أن نبني دولة القرار مع إعادة العمار، دولة ذات مؤسسات ونظام وتنظيم، دولة تجعل القانون فوق الأشخاص، والحق فوق الزعماء، والعدل فوق السياسيين، دولة لا كلمة فيها إلاّ للدستور ولا مكان فيها لزعيم قبيلة أو شيخ عشيرة أو سيّد مزرعة أو أمير حي أو شارع. دولة تحمي مواطنيها لا سياسييها. دولة يكون فيها السياسي والرئيس والنائب والوزير والمدير والمسؤول هو خادم الشعب لا الشعب قطيعاً في خدمته. دولة يكون سياسيُّوها خادمي الدولة لا الدولة مزرعة لسياسييها.
وعندئذٍ تكون إعادة إعمار لبنان نهائية في دولة نهائية.