الاثنين 8 أيار 2006
-447-
روى لي المفكر اللبناني الراحل الأب الدكتور إتيان صقر أنه حين كان في ألمانيا يُنهي دراسة الدكتوراه في الفلسفة، اضطُرّ قبل عودته الى لبنان أن يقابل أستاذه المشرف (وكان في الوقت نفسه نائباً ووزيراً سابقاً). ولما وجد صعوبة قصوى في اقتناص موعدٍ منه لكثرة انشغالاته، توسّط لديه عبر رئيس الجامعة (وكان صديق ذاك الأستاذ) فحدَّد هذا الأخير موعداً للأب إتيان من 15 دقيقة بعد ظهر الأحد (وكانت طائرته نهار الاثنين).
بعد اللقاء (الذي لم يستغرق سوى 15 دقيقة ألمانية بالضبط) شكر الأب إتيان رئيس الجامعة على تلك الخدمة الضرورية، فأجابه هذا الأخير أنّ ذاك الأستاذ المشرف (بحكم صداقته معه كرئيس جامعة) “كارَمَهُ” باجتزاء 15 دقيقة من ثلاث ساعات يمضيها بعد ظهر كل أحد بالاستماع في غرفته الى الموسيقى الكلاسيكية.
نعم!! سياسيٌّ (وأكاديمي) من ألمانيا يخصص ثلاث ساعات بعد ظهر الأحد، لا للقيلولة، ولا للَّعب بطاولة الزهر، ولا للتسكع على رصيف مقهى يرتشف القهوة ويحكي في السياسة حاملاً مسبحة يتلاعب بها بين أصابعه كي يكتمل تنظيره السياسي، بل ليستمع في خلوةٍ هادئة داخل غرفته الى الموسيقى الكلاسيكية.
أين نحن من هذا؟ بل أين سياسيونا من هذا السلوك الثقافي؟ هل رأى أحدنا واحداً منهم يدخل صالة موسيقى أو صالة مسرح أو قاعة تجري فيها محاضرة أو أمسية شعرية، إن لم يكن مدعواً إليها (وبإلحاح متكرر) من صاحب الدعوة، أو إن لم تكن الأمسية برعايته فيحضر في بعض الحالات ويرسل في معظم الحالات مندوباً عنه يذيع العريف أنه ممثل ذاك السياسي الذي إذا حضر أو أرسل مُمثِّلاً عنه فإنما إرضاء لأصحاب الدعوة أو لأبناء منطقته الانتخابية؟
أُتابع أمسيات الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية منذ تأسيسها وإقامة أمسيتها الأُولى (في قصر الأونسكو) عام 2000، وأؤكد أن السياسيين الذين يأتون (من تلقائهم) لحضور أمسياتها لا يتعدّون عدد أصابع اليد الواحدة، مع أنّ بطاقات الدعوة من المعهد الوطني العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار) تتوزّع لكل أمسية موسيقية على عدد غفير من السياسيين الموضوعين على لائحة الدعوات مع مئات المدعوين الآخرين.
نعرف أن مشاغلهم وفيرة، والدعوات على مكاتبهم غزيرة، وانشغالاتهم كثيرة لـ”خدمة الوطن” و”مصلحة البلد” و”إنقاذ لبنان” وحضور المفاوضات واللقاءات والسهرات والكوكتيلات والاجتماعات والخلوات التي تدعم (في ظنِّهم) رصيدهم السياسي. ولكن رصيدهم السياسي يزداد احتراماً وتقديراً حين يراهم الناس يحضرون كونشرتو موسيقياً أو محاضرة أو أمسية شعرية أو عرضاً مسرحياً فيدخلون القاعة ويجلسون بين الناس يصغون مثل الناس أُسوة بكل الناس.
ذاك الأستاذ الألماني العالِم، في تكريسه ثلاث ساعاتٍ بعد ظهر كل يوم أحد (وهو السياسي كذلك) لخلوة من الاستماع الهادئ الى الموسيقى الكلاسيكية، كان يدرك أنْ أمام الموسيقى الكلاسيكية الخالدة العمر يصغر كل منصب سياسي عابر لن يتجاوز عمره بضعة أشهر أو بضع سنوات.
وسياسيونا الماهرون في مباريات الـ”توك شو” السياسية، الشاطرون في كيديات الكومبينات الانتخابية، المهتمون جداً بـ”تظبيط” الوطن على قياساتهم ومصالحهم ومستقبلهم السياسي ومستقبل عائلاتهم ومزارعهم وعشائرهم وأزلامهم، حبذا لو يدركون أنهم من الفنون على أميال ضوئية، وأنهم لن يغسلوا رؤوسهم من طحالب الآنيات العوابر إلاّ بالخلود سويعات الى غسل أوقاتهم ببعض ولو زهيد من إبداع الفنون الخالدة.