448: أين نحن من جبران والأرز؟

السبت 20 أيار 2006
واشنطن -448-
أكثر من اغتباطي بالجلسة الأكاديمية التي انعقدت في “مركز أبحاث التراث” التابع لكلية الأنثروبولوجيا لدى جامعة ميريلاند، والتي تبلَّغتُ فيها رسمياً استلامي مسؤوليتي الجديدة رئيس الاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية في منطقة لبنان والمشرق، بحضور عميد الكلية وكبار أساتذتها ومدير “مركز أبحاث التراث”، وحضور مؤسس كرسي جبران في جامعة ميريلاند البروفسور سهيل بشروئي (الرئيس المؤسس لهذا الاتحاد العالمي الجبراني الجديد)، كان اغتباطي بحديثين أعقبا الجلسة.
الأول من أستاذة الإنسانيات في الكلية الشاعرة الدكتورة باربرة ليتل التي أخبرتني بأنها، حين زارت والدتها في كونيتيكت خلال عطلة الميلاد الأخيرة، وهي تصادف عيد ميلاد والدتها الثمانين، قالت لها هذه الأخيرة إن “الفضل في تربيتها على القيم والفضائل السامية يعود الى المبادئ الواردة في هذا الكتاب الصغير هناك”. وأشارت الوالدة الى كتاب في المكتبة توجَّهت باربرة إليه فإذا هو “النبي” لجبران. وطلبَت الوالدة أن تقرأ لها الابنة جهورياً فصل “الأولاد”، فانشرحت الأُم وأخذت تشرح لابنتها كيف “حققت كل مقطع منه في تربيتها أولادها، وفي الاستقاء من الكتاب كلّه قيماً إنسانيةً ساميةً لم تَجدها في أيّ كتاب آخَر”. وأردفَت لي باربرة أنها سمعت للمرة الأُولى من أمها هذا الكلام، وكانت هي في صباها الأول قرأت “النبي” لكنها لم تتنبه الى ما لفتَ أمَّها من هذه القيم وتلك الفضائل.
الحديث الآخر كان مع رئيس “مركز أبحاث التراث” الدكتور بول شاكل، وهو مهتم كثيراً بشؤون البيئة، سألني عن الأرز في لبنان ومدى اهتمام الدولة به ورعايتها إياه “لا كقيمةٍ عظيمة في لبنان فقط، بل هو إرث تاريخي ملك العالم، يرقى الاهتمام به ذكْراً ومرجعاً الى الكتب السماوية الأُولى والأناشيد المضمَّخة بأجمل الأساطير”. وختم: “أتصوّركم، أنتم شعب لبنان، فخوراً بالأرز عنواناً عالمياً بل كونياً لبلادكم، وأتصوّر الدولة اللبنانية دائبة على حفظه”.
وفي مطار بالتيمور، بينما أنا في مقعد ناء من قاعة الانتظار، أرتقب موعد إقلاع الطائرة ، التفتُّ فجأة الى سيدة حَدّي عجوز تقرأ في كتاب لا أدري ما الذي شدّني الى استطلاعه فإذا به “النبي” لجبران. تعمّدتُ تَحيَّتها (والأميركان سهلو الدماثة) فأجابت تحيتي بدماثتها الأميركية ودخلتُ معها فوراً في الحديث عن الكتاب التي تقرأ، فانفلشت أمامي في مونولوغ طويل أفهمتْني فيه أنها لا تدري كم مرةً قرأت “النبي”، وأنه رفيقها في وحدتها (“هذا رفيق روحي” قالت) وأنه لا يفارق حقيبة يدها حين تسافر. وحين سألتْني إن كنتُ أعرف هذا الكتاب، وأجبتُها أنني “من وطن جبران”، انشرحَت: “واو” (والـ”واو” الأميركية إشارة الإعجاب الشديد). واستأذنتُها بقلب الكتاب على غرفه الأخير لأقرأ لها: “ولد في بشري – لبنان سنة 1883”. سألتني تفاصيل أكثر عن جبران ولبنان، ففصَّلتُ لها ما وجدتُه لائقاً بتلك العجالة، حتى إذا انتهيتُ علّقَت بصوتها الصغير: “هنيئاً لكم. أتصوركم فخورين به، هو الذي ترك لهم إرث السلام والسماح والمحبة وتآلف الأديان”.
الشاهد من هذه الأحداث الثلاثة: أين العالم من جبران والأرز، وأين نحن منهما؟ ها هو العالم لا يزال يشهد ولادة جبران من جديد مع كل فجر جديد وطبعة جديدة في لغة جديدة في بلد جديد لجيل من العالم جديد، وها الأرز عنوان للبنان في كل العالم، بينما جيلنا اللبناني الجديد يُغرقه “بيت بو سياسة” عندنا في انسياقات حزبية وفئوية وطائفية واصطفافية فيُبعدونه عن إرثه اللبناني الذي تعتز به الدنيا (وفي طليعته جبران والأرز) حتى لأخجل سلفاً من السؤال: “كم من أبناء جيلنا اللبناني الجديد قرأوا جبران أو يعرفون أهمية الأرز في التاريخ”؟
قلبي عليه جيلنا اللبناني الجديد، تطيحه السياسة عن تراثه العظيم.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*