السبت 8 نيسان 2006
-446-
كأنه لم يَمُت. كأنه لا يموت. كأنه لن يموت أبداً ! ذاك الذي وُلِد ذات 6 كانون الثاني 1883، كأنه ما زال يولد كل يوم في بلد، في لغة، في كتاب. وحين ختم “النبي” بلسان مصطفاهُ: “قليلاً ولا ترونني لأن امرأةً أخرى ستلدني”، كأنه كان يعرف أنه يوم انطفأ النور في عينيه (عند الحادية عشرة إلاّ خمس دقائق من ليل الجمعة 10 نيسان 1931 في الغرفة 301 من مستشفى القديس فنسنت = مار منصور في مانهاتن نيويورك) لن يغادر النور سوى عتمة عينيه لأن عيوناً كثيرةً ستحمله إلى النور، ولأن التي ستلده ليست “امرأة أخرى” بل كلماتٌ أخرى من لغات أخرى في بلدان أخرى (غير وطنه الأول لبنان ووطنه الآخر أميركا) ليصبح فعلاً، لا تنظيراً شوفينياً، “مالئ الدنيا وشاغل الناس”.
إذا كانت هذه ثمرة التقمّص فيا مرحى به. وإن كان هذا هو التناسخ (في الأثر لا في الروح) فيا طيبه. وإن كانت هذه هي “الحياة” بعد الموت، فما أهنأها حياةً أبدية الديمومة، ويا طوبى لمن يغيب ترابُهُ في القبر ويشرق خلودُه في الناس.
وربما لأن جبران كان يَحدُسُ بأن كلمته لن تنطفئ معه عند انكسار قلمه عن الحبر، ولوحته لن تبهُت عند وقوع الريشة من يده، ورسالته لن تغيب شمسُها عند أفول جسده، راح “يهندس” موته كما “هندس” حياته. وإذا كنا ندين لماري هاسكل بالكثير من معطياتٍ عنه ما كان يمكننا كشفها لولا رسائله إليها ورسائلها إليه ودفاتر مذكراتها شبه اليومية عنه، فهو بحدسه الغريب راح “يلقمها” ما كان يدرك أنها ستدوِّنه في دفاترها، ويتصرَّف معها بما كان يدرك أنها ستَلحظه في مذكراتها، ويكتب إليها في رسائله ما كان يدرك أنها ستحفظه في خبيئتها.
ولنا في المصادفة حظُّ اكتشاف الأضواء “الهاسكلية”: فلو ان ماري هاسكل (بعد انتهاء مراسم المأتم نهار الثلثاء 14 نيسان من كنيسة سيدة الأرز في بوسطن) لم تَعُد إلى نيويورك (نهار الجمعة 17 نيسان) وتدخل ستوديو جبران (المبنى 51 في الشارع العاشر غرباً- مانهاتن) مع شقيقته مريانا وزكية رحمة (ابنة ملحم جبران ابن عمه) لمساعدتهما على التفتيش بين أوراقه للتأكد من عدم وجود نسخة حديثة عن وصيته التي أودعها عام 1930 مكتب المحامي إدغار سباير، وفي خلال البحث وجدَت مخطوطات جبران التي كانت عملت عليها معه أو وحدها وأعادتها إليه، ووجدت رزماً ملفوفة مرتبة هي مجموعة رسائلها إليه، لكان الخطر كبيراً أن تبادر باربرا يونغ إلى إتلاف مجموعة الرسائل، لحرصها أن تبقى هي النجمة المعلَّقة على ذاكرة الجبرانيين، بحجة أنها كانت مُيَاوِمَةً جبران في السنوات السبع الأخيرة من حياته (1924-1931) غير مدركةٍ أية تفاصيل عن علاقته الطويلة بماري هاسكل، هذه العلاقة التي كانت مريانا تعرف (من شقيقها جبران) ملامح مبهمة عنها، ولم يعرف ميخائيل نعيمة شيئاً عنها حتى أسرَّت بها إليه ماري نفسها حين التقته أربع ساعات في مقهى المحطة (غراند سنترال ستايشن-مانهاتن) قبل أن تستقلّ القطار وتعود إلى زوجها العجوز في سافانا (جورجيا). ومن تلك الساعات الأربع استقى نعيمة معلوماته عن الردح البوسطني من حياة جبران (وهو ما كان يجهله تماماً قبل التقائه به سنة 1911 في نيويورك) فكان لقاؤه بماري هاسكل على محطة القطار مخزوناً ثميناً سكبه في كتابه عن جبران من دون أن يشير إلى ذاك اللقاء الهامّ مع ماري.
أسرار… أسرار… ما زالت تنكشف عن سيرة من غاب قبل 75 سنة وما زال يُشرق كل يوم في ظاهرة عالَمية جديدة، أحدَثُها “الاتحاد الدولي” الذي وُلد هذا الأُسبوع في “منبر جبران” (جامعة ميريلند) تخليداً لسيرته وأعماله، وترسيخاً لعبقرية ذاك الذي كأنه لم يَمُت، كأنه لا يموت، كأنه لن يموت أبداً، بل ما زال يولد كل يوم في بلد، في لغة، في كتاب، ويتألق خالداً من جديد، عنواناً مضيئاً للبنان في العالم.