السبت 31 كانون الأول 2005
-436-
الذي سقط على طريق المكلّس صباح الاثنين 12/12/2005 لا بُدَّ أنه قرأ خطاب جدّه في الأرجنتين سنة 1947 (نشرته “النهار” أول أمس الخميس في صدر صفحتها الأولى) وقرأ سواه من كتاباته وافتتاحياته وخطبه صحافياً وسفيراً للبنان.
والذي وقف في مأتم ابنه لا يتفجّع بل يدعو الى نبذ الأحقاد لا بُدّ أنه متأثِّر عميقاً بتراث أبيه الوطني والصحافي والمناقبي، وخصوصاً بقول أبيه إن لبنان “اختار الحرية والسماحة والحياة الحرة، ودفن سموم التعصب المذهبي في الوكر الذي شجع الأجنبي بناءه ليعشِّش وينطلق منه الى الدسائس”.
والذي وقف يخطب قبل نصف قرن في الأرجنتين (13 نيسان 1947) لم يُلْقِ خطاباً سياسياً في جمهور لبناني (كما يتغرغر بكلامهم الأجوف معظم سياسيي اليوم) بل ألقى برنامجاً وطنياً كاملاً يجدر بمدارسنا وعائلاتنا أن تعلّمه أبناءَها ليَعوا كيف كان يفكر (ويكتب ويخطب) ذاك الرعيل المبارك من آباء لبنان الاستقلال: سياسيين وسفراء وصحافيين.
ولبنان الذي تحدّث عنه جبران تويني في خطابه قبل نصف قرن، ليس حتماً لبنان هذا الموازييك الحالي السياسي والطائفي والفئوي والمذهبي والعقائدي والحزبي والتجمعاتي والتكتلاتي والزعاماتي، بل هو لبنان الإرث الفكري والحضاري والإنساني، لبنان العناد اللبناني الذي وقف في وجه المنتدب الفرنسي الشرس بشراسة لبنانية أقوى، غير هيّاب تعطيل جريدة أو توقيفاً احتياطياً أو سجناً احترازياً. و”فرنسا أُّمنا الحنون” مش صحيح أنها كانت نغمة السواد الأعظم من اللبنانيين.
كلام جبران تويني، قبل نصف قرن، يصح أن يكون دستوراً دائماً للبنان الدائم: “الحضارة كان لبنان أول من خط لها حرفاً من حروف الهجاء… سيظل استقلال لبنان متيناً كأرزه لأنه ليس منحة من أحد بل هو حق اللبنانيين أخذوه بجهودهم وجهادهم… بين شعوب السلطنة العثمانية كنا الشعب الوحيد الذي كان له مجلس منتخب يرعى شؤونه ويشرف على الاشتراك في حكم نفسه بنفسه… روح فخر الدين نامت ولم تمت، وهي تَهز اللبنانيين وتبعث فيهم الحمية والنشاط، وستظل روحه رمزاً من رموز الجهاد اللبناني وعنواناً من عناوين وطنية لبنانية خالصة حلقت فوق الطوائف وقضت على النعرات المذهبية وقامت تعمل في سبيل استقلال لبنان باسم القومية اللبنانية لا باسم الدين… خصوم لبنان يريدون ابتلاعه لكنّ الأجيال لم تتمكن من ابتلاع لبنان بل وقف في وجه الزوابع يقاومها ويدافع عن كيانه… أبناء لبنان انسجموا على اختلاف طوائفهم واتخذوا القومية اللبنانية شعاراً وآمنوا بها متّحدين متفقين على أساس أن الدين لله والوطن للجميع… لبنان من أجمل أوطان الدنيا، إنه فردوس يدعوكم إليه بصيحات من ظلال الأرز تدوّي في آذان الزمان قائلة: عاش لبنان سيداً عزيزاً حراً”.
بعد هذا الكلام قاله جبران تويني قبل نصف قرن، نفهم أكثر اليوم لبنانية غسان تويني الحضارية العنيدة، ونفهم عناد جبران تويني الحفيد بلبنانيته التي هي حفيدةُ إرث لبناني مبارك واصل إليه من جده المؤسس الذي، حين قال قبل نصف قرن: “تَحقَّق حلم أجدادنا في مراحل حياتهم المليئة بالجهاد والكفاح، ونال لبنان استقلاله بفضل جهاد أبنائه”، لم يكن يدري أن حفيده بعد نصف قرن سيكتب بدمه الطاهر النبيل تتمة تلك العبارة بعبارة: “… وبفضل استشهاد أحفاده”.
جبرانان في تاريخ لبنان، وبينهما غسان، بيتٌ لبنانِيٌّ مرصود على الشهادة من أجل لبنان: المؤسس شهِدَ بشخصيته، الابن يشهَد بقلمه، والحفيد استشهد بإيمانه العظيم. طوبى لنا جميعاً برسالة “النهار”.